صفحة جزء
[ ص: 250 ] فصل [ الكلام على متن الحديث ] وإذا انقضى الكلام في شروط الراوي ، فالكلام في الثاني وهو المتن ، وشرطه أن يكون مما يصح كونه ، ولا يستحيل في العقل وجوده ، فإن أحاله العقل رد . قال الغزالي ، إلكيا الطبري : وأما أحاديث الصفات فكل ما صح تطرق التأويل إليه ولو على بعد قبل ، وما لا يؤول ، وأوهم فهو مردود ، وأن لا يكون مخالفا لنص مقطوع بصحته ، ولا مخالفا لإجماع الأمة والصحابة ، فإن كان بخلاف ذلك ، فهو إما غلط من الراوي أو منسوخ حكمه ، وأن لا يخالفه دليل قاطع لقيام الإجماع على تقديم المقطوع على المظنون ، فإن خالفه قاطع عقلي ولم يقبل التأويل علم أنه مكذوب على الشارع ، وإن قبله تعين تأويله جمعا بين الدليلين ، وإن كان سمعيا ، ولم يمكن الجمع فكذلك ، وإن علم تأخر المقطوع عنه حمل أنه منسوخ به ، وأن لا ينفرد راويه بما جرت العادة أن ينقله أهل التواتر ، أو يجب عليهم علمه ، فإن انفرد لم يقبل . قاله في " اللمع " ، وكذا الأستاذان : ابن فورك وأبو منصور قالا : ولهذا رددنا رواية الإمامية في النص على خلافة علي ، وقلنا : لو كان حقا لظهر نقله ; لأنه من الفروض التي لا يسع أحدا جهلها . قال ابن فورك : فإن كان مما لا يجب على الجماعة علمه فجاء بنقله الخاصة ، ويرجع فيه العامة إليهم ، وأن يكون المطلوب منه عملا ، فإن اقتضى علما ، وكان في الأدلة القاطعة ما يدل عليه لم يرد ، وإلا رد ، سواء اقتضى مع العلم عملا أم لا ; لأنه لما كان التكليف منه ، فالعلم مع عدم [ ص: 251 ] صلاحيته له كان تكليفا بما لا يطاق لكن لا يقطع بكذبه لاحتمال أن يقال : إنه عليه السلام قصد بذلك إيجاب العلم على من شافهه دون غيره ، وهو غير ممتنع ، ومن هذا إثبات القراءة عبر الآحاد فيما يرجع إلى الحكم وهو العمل ، لا القرآن .

وحكى إمام الحرمين عن القاضي أنه قال : إذا لم يجد معتصما مقطوعا به في العمل بخبر الواحد يقطع برده ، ومثاله إذا ورد فقبله بعضهم ، وأنكره بعضهم ولم يكن ثم نص للرد ، ولا نص قاطع في القبول ، قطع برده ; لأن معتمدنا في العمل بخبر الواحد الإجماع ، فحيث لا نجد قاطعا لا نحكم بالعمل . قال الإمام : والذي أراه : يلتحق بالمجتهدات ، وتعين على كل مجتهد فيه الجريان على اجتهاده ; لأنا نعلم أنه كان يقع في عصر الصحابة أحاديث قبلها بعضهم ، وتوقف فيها آخرون ، ثم كان العاملون لا يعابون ، وتبعه ابن القشيري ، ولا يشترط في العمل به عدم مخالفته للقياس ، بل يجوز إن عارضه القياس إذا تباينا من كل وجه . فإن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس قطعا ، وإلا فإن كانت كلها ظنية قدم الخبر قطعا لقلة مقدماته ، وحكى الآمدي فيه الخلاف ، وكذا إذا كان البعض قطعيا والبعض ظنيا ، قدم الخبر عند الشافعي ، وأصحابه ، والحنفية ، ونقله الباجي عن أكثر المالكية ، وقال : إنه الأصح والأظهر من قول مالك ، فإنه سئل عن حديث المصراة ، فقال : ليس لأحد ، وهذا رأي ، وسئل عن حديث هل يأخذ [ ص: 252 ] به ؟ فقرأ : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } الآية .

وذهب أبو بكر الأبهري ، وأبو الفرج إلى أن القياس أولى ، وقالوا : إنه مذهب مالك ، ونقل عن القاضي أبي بكر أنهما متساويان ، وقال عيسى بن أبان : إن كان الراوي ضابطا عالما قدم خبره ، وإلا كان في محل الاجتهاد . وقال ابن السمعاني : وما نقل عن مالك من رد الخبر إذا خالف القياس لا أرى ثبوته عنه . وقال أبو الحسين يعمن : لا خلاف في العلة المنصوص عليها ، وإنما الخلاف في المستنبطة . والمختار قول أبي الحسين أنه يطلب الترجيح ، فإن كانت أمارة القياس أقوى ، وجب المصير إليها ، وإلا فالعكس ، وإن استويا في إفادة الظن ، فالقول قول الشافعي . وقال إلكيا الطبري : لم أجد من سوى بين خبر الواحد والقياس على الإطلاق ; لأن كل واحد مظنون من وجه ، ولو صار إليه صائر لم يكن بعيدا . قلت : وقد صار إليه القاضي فيما نقله الباجي . قال إلكيا : لكن الجمهور قدموا خبر الضابط على القياس ; لأن القياس عرضة الزلل ، والوجه التعلق بالإجماع ، وقد صح عن عمر ترك الرأي للخبر في التسوية بين دية الأصابع للحديث . . . أبو بكر حكما حكمه برأيه لحديث سمعه من بلال ، ومن هذا قدمنا رواية أبي هريرة في المصراة والعرايا على القياس . [ ص: 253 ]

قال : العجب منهم في رده مع أن من جملة من رواه ابن مسعود ، وعندهم أن الراوي إذا كان فقيها كابن مسعود قبل حديثه ، سواء وافق القياس أم لا ، ولا يضره عمل أكثر الأمة بخلافه ; لأن قول البعض ليس حجة خلافا لقوم ، لكن قول الأكثر من المرجحات ، فتقدم عند التعارض ، بمعنى أنه إذا عارض خبر الواحد خبرا آخر مثله معتضدا بعمل الأكثر قدم على الآخر الذي ليس معه عمل الأكثر ، وقال أبو الحسين بن القطان : ذهب أهل العراق إلى أنه إن كان يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات كالصلاة فشرطه أن يقبله الأكابر من الصحابة ، فإذا رأيناهم لا يقبلونه ولا يخالفونه علمنا أنه منسوخ أو متروك ، قال : وهذا مردود ; لأن الحجة في قبول خبر الواحد ، حتى يقوم معارض من نسخ أو تأويل ، وقد وجدنا الأكابر منهم يخفى عليهم أشياء . مسألة : قال ابن فورك : ولا يرد بأن يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه ; لجواز أن يكون مخصوصا به إلا أن يكون نافيا لما يقتضي العقل إثباته فيرد .

التالي السابق


الخدمات العلمية