صفحة جزء
مسألة قال في " المقترح " : للعلة أسماء في الاصطلاح ، وهي : السبب ، والإشارة ، والداعي ، والمستدعي ، والباعث ، والحامل ، والمناط ، والدليل ، والمقتضي ، والموجب ، والمؤثر . انتهى . وزاد بعضهم : المعنى . والكل سهل غير السبب والمعنى . [ ص: 147 ] أما السبب : فهو متميز عن العلة من جهة الاصطلاح الكلامي والأصولي والفقهي واللغوي . أما اللغوي فقال أهل اللغة : السبب ما يتوصل به إلى غيره . ولو بوسائط ، ومنه سمي الحبل سببا ، وذكروا للعلة معاني يدور القدر المشترك فيها على أنها تكون أمرا مستمدا من أمر آخر وأمرا مؤثرا في آخر . وقال أكثر النحاة : اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية ، وقالوا الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل . وصرح ابن مالك بأن الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غيران . وأما الكلامي : فاعلم أنهما يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين : أحدهما : أن السبب ما يحصل الشيء عنده لا به ، والعلة ما يحصل به .

والثاني : أن المعلول متأخر عن العلة بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده ، والسبب إنما يقتضي الحكم بواسطة أو بوسائط ، ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع . وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها ، إذا اشترط لها ، بل هي أوجبت معلولا بالاتفاق ، حكى الاتفاق إمام الحرمين والآمدي وغيرهما .

وأما الأصولي : فقال الآمدي في جدله " : العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم ، كما في القتل العمد العدوان ، فإنه يصح أن يقال : قتل لعلة القتل ، وتارة يطلقونها على حكمة الحكم ، كالزجر الذي هو حكمة القصاص ، فإنه يصح أن يقال : العلة الزجر . وأما السبب : فلا يطلق إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة . انتهى . وأما الفقهي فقال إلكيا : يطلق السبب في اصطلاح الفقهاء على أربعة أمور : [ ص: 148 ] أحدها : السبب الذي يقال : إنه مثل العلة كالرمي ، فإنه سبب حقيقة إلا أنه في حكم العلة ، لأن عين الرمي لا أثر له في الحكم حيث لا فعل منه ، ومنه الزنى . الثاني : ما يكون الطارئ مؤثرا ولكن تأثيره مستند إلى ما قبله ، فهو سبب من حيث استناد الحكم إلى الأول لا استناد الوصف الآخر إلى الأصل . الثالث : ما ليس سببا بنفسه ولكن يصير سببا بغيره ، كقولهم : القصاص وجب ردعا وزجرا ، ثم قالوا : وجب لسبب القتل ، إذ القتل علة القصاص ، فقطعوا الحكم عن العلة ، وجعلوه متعلقا بالعلة ، والعلة غير الحكم . واعلم أنه لولا الحكمة لكان الحكم صورة غير صالحة للحكم ، فبالحكمة خرج عن كونه صورة ، والعلة صارت جالبة للحكم بمعناها لا بصورتها ، ودون الحكمة لا شيء إلا صورة الفعل ، والصورة لا تكون علة قط ، فعلى هذا ، الحكمة راجعة إلى العلة فلا علة بدونها ، والخلاف يرجع إلى اللفظ . الرابع : ما يسمى سببا مجازا من حيث إنه سبب لما يجب ، كقولهم الإمساك سبب القتل ، وليس سبب القتل حقيقة ، فإنه ليس يفضي إلى القتل ، بل القتل باختيار القاتل ، ولكنه سبب للتمكن من القتل بإلحاق ، وقيل : سبب القتل . فالأسباب لا تعدو هذه الوجوه

. انتهى . وقال في " تعليقه " : المتكلمون لا يفرقون بين العلة والسبب ، والفقهاء يقولون : العلة هي التي يعقبها الحكم ، والسبب ما تراخى عنه الحكم ووقف على شرط أو شيء بعده . وفرق غيره بين السبب والحكمة ، بأن السبب يتقدم على الحكم ، والحكمة متأخرة عن الحكم ، والحكم مفيد لها ، كالجوع سبب الأكل ، ومصلحة رفع الجوع وتحصيل الشبع حكمة له . وقد ذكر الغزالي في الفقهيات أن الفعل الذي له مدخل في زهوق الروح [ ص: 149 ] إن لم يؤثر في الزهوق ولا فيما يؤثر فيه فهو " الشرط " ، كحفر البئر التي يتردى فيها مترد .

وإن أثر فيه وحصله فهو " العلة " كالقد والحز . وإن لم يؤثر في الزهوق ولكن أثر فيما يؤثر في حصوله فهو " السبب " كالإكراه ، ولا يتعلق القصاص بالشرط قطعا ، ويتعلق بالعلة قطعا ، وفي السبب خلاف وتفصيل . وإذا تبين أن العلة فوق السبب ، صح الحكم بتقاصر رتبته عن المباشرة كما قرروه في كتاب الجراح من أن المباشرة علة ، والعلة أقوى من السبب ، ومن نظائر المسألة : لو أن رجلا فتح زقا بحضرة مالكه فخرج ما فيه والمالك يمكنه التدارك فلم يفعل ففي وجوب الضمان على الفاتح وجهان ، ولو رآه يقتل عبده أو يحرق ثوبه فلم يمنعه مع قدرته على المنع وجب الضمان وجها واحدا . والفرق أن القتل والتحريق مباشرة ، وفتح الزق سبب ، والسبب قد يسقط حكمه مع القدرة على منعه ، بخلاف العلة لاستقلالها في نفسها . وإنما قلنا : قد يسقط حكمه ولم نجعل السقوط مطردا لأن الإنسان لو صالت عليه بهيمة غيره وأمكنه الهرب فلم يهرب ففي الضمان وجهان :

أحدهما : يضمن وهو بعدم هروبه مفرط في حق نفسه .

والثاني : لا يضمن لوقوع الصيال ، وهذا الوجه أرجح منه في مسألة الزق ، لأن الإنسان قد يحصل له عند الصيال دهشة تشغله عن الدفع .

وقال القفال الشاشي : الطرق في التمييز بين العلة والسبب والشرط : أنا ننظر إلى الشيء إن جرى مقارنا للشيء وأثر فيه فهو " العلة " ، أو غير مقارن ولا تأثير للشيء فيه دل على أنه " سبب " . وأما " الشرط " فهو ما يختلف الحكم بوجوده . وهو مقارن غير مفارق للحكم كالعلة سواء إلا أنه لا تأثير له فيه وإنما هو علامة على الحكم من غير تأثير أصلا .

وقال ابن السمعاني رحمه الله : الشرط ما يتغير الحكم بوجوده ، [ ص: 150 ] والسبب لا يوجب تغير الحكم بل يوجب مصادفته وموافقته . ثم ذكر كلام القفال ، ويتفرع على هذا الأصل مسألة خلافية مقصودة في نفسها . قال علماؤنا : الشرط إذا اتصل بالسبب ولم يكن مبطلا كان تأثيره في حكم تأخر السبب إلى حين وجوده لا في منع وجوده ، ومثاله إذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فالسبب قوله : " فأنت طالق " لأن " أنت طالق " ثابت مع الشرط كما هو ثابت بدونه ، غير أن الشرط أوقف حكمه إلى وقت وجوده ، فتأثير الشرط إنما هو في منع حكم العلة ، لا في نفس العلة ، بدليل أنه لو لم يقترن به الشرط ثبت حكم العلة . وربما عبروا عن هذا بأن الشرط لا يبطل السببية ، ولكن يؤخر حكمها ، والسبب ينعقد ولكن الشرط يرفعه ويؤخر حكمه فإذا ارتفع الشرط عمل السبب عمله ، ومن ثم يقولون : الصفة وقوع لا إيقاع ، والشرط عندهم قاطع طريق يضر ولا ينفع ، إذ لا مدخل له في التأثير نفيا وإثباتا ، وإنما هو توقف عن الحكم . ومن هذا يعلم أنها إذا دخلت طلقت لكونه قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، لا لكونها دخلت . قال أصحابنا من علق الطلاق فقد نجز السبب ، والمعلق إنما هو عمل السبب لا نفسه ، وقد وافقنا على ذلك المالكية والحنابلة ، وقال أبو حنيفة : الشرط يمنع انعقاد السبب في الحال وخرجه بعض المتأخرين وجها في مذهبنا من قول بعض أصحابنا في المسألة السريجية : إنه يقع المنجز وطلقتان معه أو بعده من المعلق ، وربما قال أبو حنيفة : الشرط داخل على نفس العلة لا على حكمها . قال : والشرط يحول بين العلة ومحلها . فلا تصير علة معه . والظاهر مذهب الشافعي لأن الشرط لا مدخل له في التأثير فكيف يمنع العلية . وعلى هذا الأصل مسائل :

منها : تعليق الطلاق أو العتق بالملك عندنا باطل لأنه لم يصادف عندنا وقت التعليق محلا قابلا لما يعرف به منه ، وقد بينا أن التعليق لا يمنع السببية ، [ ص: 151 ] وإذا لم يمنعها انعقدت ، وانعقاد العتق والطلاق في غير زوجة ورقيق غير معقول . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، بناء على أصل : لما منع التعليق السببية لم يكن منعقدا فلم يكن الطلاق والعتق في غير مملوك بل هو إنما هي في مملوك ، لأن العلة تأخرت إلى زمن الملك فالموجود وقت التعليق لفظ العلة لا نفسها وقد قطعها التعليق . تنبيه

قد عرفت حكم كلمة الشرط المسلطة على الأسباب ، وأن الشافعي يقول : إنها لا ترفع السببية بل توقف حكمها ، وأبو حنيفة يقول : بل ترفعها ولكن لا مطلقا بل إلى وقت وجود الصفة . وبالغ القاضي ابن سريج رحمه الله فقال بمذهب الشافعي في انعقاد السببية ، وزاد أن الشرط يلغى بالكلية ، لكونه ورد قطعا لشيء بعد مضي حكمه ، فقال : إذا علق الطلاق تنجز في الحال ، فهذه مبالغة وقول ضعيف . وبالغ ابن حزم في مذهب أبي حنيفة فقال به ، وزاد أن الشرط منع انعقاد السبب مطلقا ، وأن الطلاق المعلق لا يقع رأسا وجدت الصفة أو لم توجد وهذا خرق للإجماع فتلخص من هذا أن الشرط الداخل على السبب قاطع له عند ابن حزم رأسا ، ويقابله قول ابن سريج : إنه فاسد في نفسه غير معرض للسبب في شيء ولكن ابن سريج يقصر ذلك على ما إذا بدأ بالسبب قبل الشرط ، ولا يقوله فيما إذا عكس فقال : إن دخلت الدار فأنت طالق والجمهور لا يلغون الشرط . ثم اختلفوا : فأشدهم إعمالا الشافعي حيث قال : إنه ينتصب في الحال سببا في ثاني الحال ونقلوه عن أبي حنيفة فإنه قال : لا ينعقد في الحال ولا يكون منهيا ، وإنما ينعقد في ثاني الحال . ومنها : أعني من المسائل المترتبة على أنه هل انعقد السبب في حال [ ص: 152 ] التعليق ، كما يقوله أبو حنيفة ، أو لم ينعقد كما هو الصحيح عندنا في موضع الشهود أن الغرم على شهود التعليق دون شهود الصفة في الطلاق والعتق .

وفي وجه أراه أنه مذهب أبي حنيفة أنه عليهم جميعا . وقد أشبع إمام الحرمين هذا الأصل تقريرا في الخلافيات ثم عاد عنه في الفروع فقال : وقد حكى قول الأستاذ فيمن قال : وقفت داري بعد الموت ، وساعده أئمة الزمان إن هذا تعليق على التحقيق ، بل هو زائد عليه ، فإنه إيقاع تصرف بعد الموت قال الرافعي : كأنه وصية بدليل أنه لو عرض الدار على البيع صار راجعا . وأما " المعنى " فقال الماوردي في " الحاوي " عبر بعض الفقهاء عن " المعنى " " بالعلة " وهو تجوز ، والتحقيق أنهما يجتمعان من وجهين :

أحدهما : أن حكم الأصل موجود في المعنى والعلة .

وثانيهما : أن العلة والمعنى موجودان في الفرع والأصل . ويفترقان من وجوه :

أحدها : أن العلة مستنبطة من المعنى وليس المعنى مستنبطا من العلة لتقدم المعنى وحدوث العلة .

والثاني : أن العلة تشتمل على معان ، والمعنى لا يشتمل على علل ، لأن الطعم والجنس معنيان وهما علة الربا .

والثالث : أن المعنى ما يوجب به الحكم في الأصل حتى يتعدى إلى الفرع والعلة اجتذاب حكم الأصل إلى الفرع ، فصار " المعنى " ما ثبت به حكم الأصل ، والعلة ما ثبت به حكم الفرع .

ثم يجتمع العلة والمعنى في اعتبار أربعة شروط : أن يكون المعنى مؤثرا في الحكم ، وأن يسلم المعنى ولا يردهما نص ولا إجماع ، وأن لا يعارضهما من المعاني والعلل أقوى منهما ، وأن يطرد المعنى والعلة فيوجد الحكم [ ص: 153 ] بوجودهما ويسلمان من نقض أو كسر ، فإن عارضهما نقض أو كسر لعدم الحكم مع وجودهما فسد وبطلت العلة ، لأن فساد العلة يرفعها ، وفساد المعنى لا يرفعه ، لأن المعنى لازم والعلة طارئة ، لأن الكيل إذا بطل أن يكون علة في الربا في البر لم يبطل أن يكون الكيل باقيا في البر ، فيصير التعليل باطلا والمعنى باقيا ، ولا يجوز تخصيص المعاني من العلل المستنبطة ، وفي المنصوصة وجهان . والثاني وقوف العلة على حكم النص وعدم تأثيرها فيما عداها هل يصح ؟ فيه وجهان .

وأما " المظنة " فهي معدن الشيء قال صاحب " المقترح " من غلط الطلبة تسمية العلة مظنة . قال شارحه : يريد أنهم غلطوا في إطلاق اسم المظنة على كل علة ، وإنما تطلق في الاصطلاح على بعض العلل ، ولها دلالتان : دلالة على المعنى ، ودلالة على الحكم الشرعي ، فهي إذا أضيفت إلى المعنى الوجودي سميت مظنة .

وإذا أضيفت إلى الحكم الشرعي سميت علة له ، ومن عكس ذلك فقد غلط . فالسفر مثلا يدل على المشقة ويدل على الرخصة ، فإذا أضفته إلى المشقة قلت هو مظنة ، وإذا أضفته إلى الرخصة قلت هو علة له ، فالسفر مظنة المشقة ، وعلة الرخصة وهذا أمر يرجع إلى اصطلاح جدلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية