صفحة جزء
الكلام على تراجيح الأقيسة . وهي إما أن تكون قطعية فيدخلها الترجيح ، وإن قلنا بتفاوت المعلوم ، وإما أن تكون ظنية فكذلك على المشهور وحكى إمام الحرمين عن القاضي أنه ليس في الأقيسة المظنونة تقديم ولا تأخير ، وإنما الظنون على حسب الاتفاق قال : وبناه على أصله أنه ليس في مجال الظنون مطلوب ، وإذا لم يكن مطلوب فلا طريق على التعيين ، وإنما المظنون على حسب الوفاق ثم عظم الإمام النكير على القاضي وقال : هذه هفوة عظيمة ، وألزمه القول بأنه لا أصل للاجتهاد .

والحق أن القاضي لم يرد ما حكاه الإمام عنه ، كيف وقد عقد فصولا في التقريب " في تقديم بعض العلل على بعض ، فعلم أنه ليس يعني إنكار الترجيح فيها ، وإنما مراده أنه لا يقدم نوعا على نوع على الإطلاق ، بل ينبغي أن يرد الأمر في ذلك إلى ما يظنه المجتهد راجحا ، والظنون تختلف ، فإنه قد يتفق في آحاد النوع القوي شيء يتأخر عن النوع الضعيف ، وهذا صحيح ، وهو راجع إلى ما قاله الإمام عن تقديم الشبه الجلي على المعنى [ ص: 209 ] الخفي ، مع أن غالب المعنى مقدم على غالب الشبه ، وكأنه يقول : الترجيح في الأقيسة الظنية ثابت بالنسبة إلى عموم آحاد كل نوع ، لا بالنسبة إلى غالب كل نوع وأما قول الإمام : إنه بناه على أصله في أنه ليس في المجتهدات حكم معين فضعيف ، وشبهة الإمام في ذلك أنه إذا قال : لا حكم ، فكأنه قال : لا مطلوب ، فنقول : إن كان كما قلت استحال الظن ، والحكم بأن الظنون لا تقديم فيها ولا تأخير فرع وجودها نعم ، القاضي يقول : لا حكم في المجتهدات قبل الظن ، ولكن فيها مطلوب ، وهو السبب الذي يبنى على ظنه وجود الحكم ، كصحة خبر الواحد أو الظاهر أو القياس مثلا ، فيطلب المجتهد ظن وجود ذلك ، والظنون تختلف .

ويكون باعتبارات الأول - بحسب العلة قال ابن السمعاني : تعارض العلتين ضربان : ( أحدهما ) أن يتعارضا في حق مجتهدين ، فلا يوجب التعارض فسادهما ، لأن كل واحد يأخذ بما أداه إليه اجتهاده و ( الثاني ) تعارضهما في حق مجتهد واحد فيوجب التعارض فسادهما ، إلا أن يوجد ترجيح لإحداهما على الأخرى ثم إن الترجيح لا يقع بين دليلين موجبين للعلم ، ولا بين دليل يوجب العلم وآخر يوجب الظن ، وإنما يتعارضا المفيدان للظن ، ولا بد من ترجيح ، انتهى . فنقول : له اعتبارات : أولها - يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة .

[ ص: 210 ] على القياس المعلل بنفس الحكمة ، للإجماع من القياسين على صحة التعليل بالمظنة ، فيرجع التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة ثانيها - ترجيح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي : لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة ، فالداعي إلى شرع الحكم في الحقيقة إنما هو الحكمة ، وإذا كانت العلة الحكمة لا ذلك العدم كان التعليل بها أولى ، وقضية هذه العلة أن يكون التعليل بالحكمة راجحا على التعليل بالوصف الوجودي الحقيقي ، لكن التعليل بالحقيقي راجح عليه من جهة كونه منضبطا ولهذا اتفقوا عليه بخلاف التعليل بالحكمة والحاجة ، فإنه غير منضبط .

ثالثها - يرجح المعلل حكمه بالوصف العدمي : على المعلل حكمه بالحكم الشرعي ، لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسبا للحكم ، والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة ، والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالأمارة هذا اختيار صاحب المنهاج " والتحصيل " والفائق " وذكر الإمام في المسألة احتمالين بلا ترجيح أحدهما ، هذا ، والثاني عكسه ، لأن الحكم الشرعي أشبه بالوجود رابعها - يرجح المعلل بالحكم الشرعي على المعلل بغيره خامسها - يرجح المعلل بالمتعدية على المعلل بالقاصرة في قول القاضي والأستاذ أبي منصور وابن برهان وقال إمام الحرمين : إنه المشهور ، فإنه أغزر فائدة .

وقال أبو إسحاق : القاصرة متقدمة ، لأنها معتضدة بالنص ، ومال إليه في المستصفى " فقيل له : الحكم هو المعتضد دون العلة وقيل : هما [ ص: 211 ] سواء ، واختاره ابن السمعاني ، ونقله إمام الحرمين عن القاضي واختار في المنخول " أنهما إن تواردا على حكم واحد يجمع بينهما فلا ترجيح ، وإن تنافيا فلا يلتقيان ، نعم يكفي طرد المتعدية عكس القاصرة ، ولا يقاوم الطرد العكس أصلا ، وإن فرض ازدحام على حكم تقدير الاتفاق على اتحاد العلة فالمتعدية أولى ، لما ذكره القاضي والمسألة مبنية على جواز التعليل بأكثر من علة واحدة ، فإن منعناه - كما اختار إمام الحرمين وغيره - فلا تعارض ثم أورد على نفسه سؤالا مضمونه وقوع التعارض بينهما ، واستمد منه أن الشافعي رجح القاصرة ، وذلك أن الشافعي وأبا حنيفة اتفقا على أن الأمة تخير إذا عتقت تحت العبد واختلف إذا عتقت تحت الحر ونشأ اختلافهما من الاختلاف في علة الأصل ، فعند الشافعي إنما خيرت تحت العبد لفضلها حينئذ عليه بالحرية ، فلا تخير تحت الحر ، فالعلة حينئذ قاصرة ، وعند أبي حنيفة إنما خيرت لأنها ملكت نفسها فتخير تحت الحر ، لأن العلة مطردة متعدية ثم انفصل عن هذا السؤال بإبطال العلتين جميعا ، أما علة أبي حنيفة فقال القاضي : لا معنى لتعليل الخيار بتملكها نفسها ، لأنها إن ملكت مورد النكاح انفسخ فلا اختيار ، وإن ملكت غيره فهو أجنبي فلا تختار في غير ما ملكت تنبيه قد ينازع في دخول الترجيح من هذين في القياس ، لأن القاصرة لا وجود لها في غير محل النص ، ولا يخفى امتناع القياس بناء على علة يختص [ ص: 212 ] بها محلها ، فكيف صورة الترجيح ؟ .

والجواب أن نتيجة الترجيح بينهما إمكان القياس وعدم إمكانه مثاله : الثمنية والوزن في النقدين لمن رجح الوزن مرتب على ترجيحه إمكان القياس ، فترتب على ترجيح الثمنية امتناع القياس وهذه فائدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية