صفحة جزء
[ ص: 316 ] التقليد مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها ، ومنه : قلدت الهدي : فكأن الحكم في تلك الحادثة قد جعل كالقلادة في عنق من قلد فيه . واختلفوا في حقيقته ، هل هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أين قاله ؟ ، أي من كتاب أو سنة أو قياس . أو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله ؟ وجزم القفال في شرح التلخيص " بالأول ، والشيخ أبو حامد في تعليقه " والأستاذ أبو منصور بالثاني ، وعليه ابن الحاجب وغيره .

وتنبني عليهما مسألتان : المسألة الأولى أن العمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم هل يسمى تقليدا ؟ وفيه وجهان ، فإن قلنا بالثاني فلا يسمى تقليدا ، لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم نفس الحجة ، كذا قال ابن القطان وغيره ، وتردد فيه ابن دقيق العيد ، لأنه إن أريد بالسبب الذي قيل فيه خصوص ذلك السبب وعينه فهذا متوجه يقتضي أن يكون اتباعهم تقليدا . وإن أريد به أمر أعم من هذا ، فإن قلنا : إن الأنبياء لا يجتهدون [ ص: 317 ] فقد علمنا أن سبب أقوالهم الوحي فلا يكون تقليدا أيضا على الأول . وإن قلنا : إنهم يجتهدون فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين : إما الوحي أو الاجتهاد . وعلى كل تقدير فقد علمنا السبب ، واجتهادهم معلوم العصمة . قلت : ويشهد له أن القفال بنى الخلاف في تسميته مقلدا على الخلاف في أنه هل كان عليه السلام يقول عن قياس ؟ فإن كان يقوله - وهو الأصح - فيقلد ، لأنه لا يدرى أقاله عن وحي أو قياس ، وإن قلنا بالمنع فليس بتقليد .

وقال القاضي الحسين في التعليق " : لا خلاف أن قبول قول غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين يسمى تقليدا . وأما قبول قوله عليه السلام فهل يسمى تقليدا ؟ وجهان ينبنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا ؟ قلت : وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في المسألة في أول السلسلة " أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا ، فإنه قال في حق الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ بقوله ما نصه : فإما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى .

وخطأ الماوردي من قال إنه ليس بتقليد ، ولكن قال الروياني في البحر " : أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صلى الله عليه وسلم تقليدا ولم يرد حقيقة التقليد ، وإنما أراد القبول من السؤال عن وجهه .

وفي وقوع اسم التقليد عليه وجهان ، قال : والصحيح من المذهب أنه يتناوله هذا الاسم ، وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ ، وبه صرح إمام الحرمين في التلخيص " وقال : هو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق . واختار ابن السمعاني أنه لا يسمى تقليدا ، بل هو اتباع شخص ، لأن الدليل قد قام في أن له حجة ، فلا يكون قبول قوله قبول قول في الدين من قائله بلا حجة . وأغرب القاضي في التقريب " فنقل الإجماع على أن الآخذ بقول النبي عليه الصلاة والسلام ، والراجع إليه ليس بمقلد ، بل هو [ ص: 318 ] صائر إلى دليل وعلم يقين . فأما كونه صائرا إلى دليل وعلم يقين فلا ريب فيه ، وأما كونه لا يسمى تقليدا فمردود بالخلاف السابق . وقد قال الشافعي رحمه الله : ولا يجوز تقليد أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا نص في أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقلد ، بل وفي أنه لا يقلد سواه . وأما القاضي فإنه أول كلام الشافعي وقال : لعله أراد بتقليده عليه الصلاة والسلام أنه ليس لأحد أن يقول له : من أين قلت ؟ ولا : لم قلت ؟ ثم قال : فإن كان أراد هكذا فكذا أيضا جاء في العامي مع المجتهد ، فإنه لا يسأله : من أين قلت ؟ وإذا لم يكن العامي عنه مقلدا فلا يكون أيضا . هذا كذلك .

وهذا الذي قاله القاضي ممنوع . بل الأصحاب اختلفوا في كلام الشافعي على طرق : ( أحدها ) تأويل من اعتقد أنه لا تقليد في اتباع الرسول ، ولا في اتباع العامي المجتهد . ورأس هذه الطائفة القاضي ، وقد أوله كما رأيت ، وتبعه الغزالي . واتفقت هذه الطائفة على الاعتضاد بهذا النص من الشافعي على أن اتباع العامي المجتهد ليس بتقليد ، فجرت على ظاهر قول الشافعي في المستثنى دون المستثنى منه ، وتصرفت في المستثنى بالتأويل إما مع الاعتراض ، كالقاضي ، أو لا معه ، كالغزالي . و ( ثانيها ) فرقة اعتقدت أن العامي مقلد ، وأن الأخذ بقول النبي عليه السلام مقبول ليس بتقليد ، وهذه الطائفة لم تجر على ظاهر النص ، لا في المستثنى ولا في المستثنى منه ، ومنهم ابن السمعاني فقال : هذا مذكور على طريق التوسع لا على طريق الحقيقة ، ورأس هذه الطائفة الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، فقال في أول " تعليقه " إذا قلنا بقوله الجديد فلا يجوز تقليد أحد بحال . وأما قول الشافعي في أدب القضاء " : إنه لا يجوز لأحد أن يقلد أحدا إلا الرسول . فمن فهم منه أن قبول قوله يسمى تقليدا فقد غلط ، وتقليد الرسول لا يجوز . وإنما صورته صورة التقليد ، وليس في الحقيقة تقليد ، وذلك أنه إن سئل عن شيء فأجاب كان جوابه في الصورة مثل [ ص: 319 ] أن يسأل الشافعي فيجيب ، لكن حقيقة التقليد قبول قول المجيب بغير دليل ، فجواب الشافعي لا يمكن هنا فلا بد فيه من الدليل ، وجواب الرسول بعينه حجة ودليل ، فلا يكون مثله في الجواب . انتهى .

وذكر بعضهم للنص تأويلين : ( أحدهما ) أن المعنى أنه لا يجوز لكل أحد تقليد أحد بعد الرسول ، بل يفترقون ، فعالمهم لا يقلد ، وعاميهم يقلد . وأما الرسول فنسبة العالم والجاهل إليه سواء ، والكل بالنسبة إليه بمنزلة الجاهل عند المجتهد يأخذ بقوله تقليدا ، بل لأنا قد قلنا : إن للعامي سؤال العالم عن مأخذه ، ولا كذلك الرسول [ فليس ] لعامي ولا للعالم أن يقول له : لم ؟ ولا : من أين ؟ وهذا التأويل أبقى لكلام الشافعي في المستثنى والمستثنى منه على ظاهره ، وليس فيه عمل إلا في تعميم قوله " أحد " على أن المعنى : كل أحد . و ( ثانيهما ) إبقاء الكلام على ظاهره من كل وجه ، وهو مبني على أنه لا يقلد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم . وأما المجتهد فلا يقلد . وذلك أن معنى التقليد أن يلقي المرء المقاليد ويطرح كله ويجعل اعتماده فيما يقع له من الحوادث وفي تفرق حملها على الرسول والرجوع إليه في كل نائبة ندرة . وإنما تطمئن فيمن لا يخطئ ، وذلك هو من قوله حجة ، وهو الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإن قلت : والرجوع إلى المجتهد رجوع إليه . قيل : ولكن لا وثوق بصواب المجتهد . فإذا لا يقلد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا ينبغي أن يحمل نهي الشافعي عن التقليد حيث قال المزني : هذا مختصر اختصرته من علم الشافعي ومن معنى قوله ، مع علمه نهيه عن تقليده وتقليد غيره . انتهى . فعلى التأويل الأول : يقلد ، وعلى الثاني : لا يقلد فتواه .

وأما دعوى القاضي الاتفاق على أن الرسول لا يقلد فكان الحامل له على ذلك اعتقاده أن المقلد [ ص: 320 ] شاك فيمن يقلده ، وليس ذلك عندنا بل المقلد لا شك عنده ، لوثوقه بالمقلد الذي ألقى بتقاليده إليه ، ولما تقارب الخلاف زعم إمام الحرمين أنه لفظي ، ولما اعتقد القاضي أن اتباع العامي تقليد ، وأن المقلد شاك مع التقليد ، تبعا للشيخ أبي الحسن الأشعري ، وهي مسألة ( إيمان المقلد ) التي تعزى لأبي الحسن ، ولذلك أطلقنا الكلام في بيان معنى التقليد ، ليخرج منه هذه المسألة . ومن ثم عقد القاضي في التقريب " بابا في إمكان التقليد في جملة أصوله وفروعه . ثم لما فرغ عقد بابا في أنه لا يجوز التقليد في فروع الأحكام ، كما لا يجوز في أصولها .

التالي السابق


الخدمات العلمية