صفحة جزء
الثالث : أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد : فإن كان اجتهد في الواقعة فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين فيها ، خلاف ما ظنه ، بلا خلاف ، لأن ظنه لا يساوي الظن المستفاد من غيره ، والعمل بأقوى الظنين واجب . و [ لو ] خالف وحكم بخلاف ظنه فقد أثم ، وإن كان مذهبا لغيره . وهل ينتقض حكمه ؟ فيه وجهان للحنابلة ، ذكره صاحب المستوعب " . وهو يقدح في نقل ابن الحاجب الاتفاق على بطلان حكمه . واستثنى القاضي أبو الطيب من هذا القسم ما إذا كان حكما يجب هل أو عليه يحتاج في فصله إلى حاكم بينهما باجتهاده ، فيجوز له تقليده في هذه الصورة .

وإن لم يكن قد اجتهد ففيه بضعة عشر مذهبا : الأول - المنع منه مطلقا ، وإليه ذهب الأكثرون ، منهم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ ، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب . قال الباجي : وهو قول أكثر أصحابنا ، وهو الأشبه بمذهب مالك ، وسواء كان [ ص: 335 ] الوقت موسعا أو مضيقا ، ونقله الروياني عن عامة الأصحاب ، وظاهر نص الشافعي ، ذكره في أول البحر " وكذا نقله الشيخ أبو حامد عن عامة الأصحاب خلا ابن سريج ، قال : وقال أبو إسحاق إنه مذهب الشافعي ، ونقله الأستاذ أبو منصور وأبو بكر الرازي عن أبي يوسف ومحمد ، وهو النص لأحمد بن حنبل . والثاني يجوز مطلقا ، وعليه سفيان الثوري وإسحاق ، وحكاه الشيخ أبو حامد عن أبي حنيفة . وقال الأستاذ أبو منصور قال الكرخي : يجوز في قول أبي حنيفة ، وكذا حكاه عنه أبو بكر الرازي في أصوله قال : ولهذا جوز تقليد القاضي فيما ابتلي به من الحكم . قال القرطبي : وهو الذي ظهر من تمسكات مالك في الموطأ .

وقال بعض الحنابلة : حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن مذهبنا ذلك ، ولا نعرف . والثالث - يجوز تقليد الصحابة فقط ، ونقل عن الشافعي في القديم ، وكأنه أخذه من تقليده زيد بن ثابت وعثمان وغيرهما . وقد أجاب الروياني بأن ذلك ليس تقليدا وإنما هو اتفاق رأيه لرأيهم وفيه نظر ، لأنه صرح في عثمان بالتقليد . ونقل الأستاذ أبو منصور وإمام الحرمين عن أحمد أنه يجوز تقليد الصحابة ولا يقلد أحد بعدهم غير عمر بن عبد العزيز . واستغربه بعض أئمة الحنابلة . والرابع : يجوز تقليد الصحابة بشرط أن يكون أرجح في نظره من غيره ، فإن استووا في نظره فيها تخير في التقليد لمن شاء منهم ، ولا يجوز له تقليد من عداهم . وعزاه ابن الحاجب إلى الشافعي . والخامس - يجوز تقليد الصحابة والتابعين دون غيرهم . والسادس - يقلد من هو أعلم منه ، ولا يقلد من هو مثله .

ونقله أبو بكر الرازي عن الكرخي وقال : إنه ضرب من الاجتهاد ، ومن يقويه [ ص: 336 ] رأي الآخر في نفسه على رأيه لفضل عليه فلم يخل في تقليده إياه من استعمال الاجتهاد . ونقله القاضي في التقريب " والروياني عن محمد بن الحسن ، وكذا إلكيا . قال ، وربما قال : إنهما سواء ، وعن هذا أوجب قوم تقليد الصحابة لأنهم أعلم ، ونقله صاحب المعتمد عن ابن سريج وشرط معه ضيق الوقت . والسابع - يجوز التقليد فيما يتعلق بنفسه دون ما يفتي به ، حكاه ابن القاص عن ابن سريج ، وهو يقتضي أنه لا يجوز له الحكم به من باب أولى ، وهو مبني على تصويب المجتهدين . والثامن - يجوز تقليد مثله فيما يخصه إذا خشى فوات الوقت فيها باشتغاله بالحادثة ، وهو رأي ابن سريج ، قال الشيخ أبو حامد : حكى عنه أنه قال : إنهم إذا كانوا في سفينة وخفيت عليهم جهة القبلة قلدوا الملاحين . قال أبو العباس : وهذا مذهب الشافعي ، لأنه قال في الصلاة : فإن خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى ، وقد ثبت أن الأعمى يقلد . ورد عليه أبو إسحاق بأنه جعله كالأعمى في الصلاة يصلي على حسب حاله ثم يعيد ، ليس في أنه يجوز له التقليد . وقد حكى الروياني في البحر " هذا المذهب عن ابن سريج ثم غلطه . وقال ابن دقيق العيد : وقيل ، إن ضاق الوقت عن الاجتهاد فله ذلك .

وهذا قريب لأن المكنة التي جعلناها سببا لوجوب الاجتهاد قد تعذرت بسبب تضيق الوقت . وقد نفى القفال الخلاف بين الأصحاب في المنع من التقليد مع التمكن من الاجتهاد ، ولكن المحكي عن ابن سريج نقله عن صاحب التلخيص " سماعا منه . والتاسع - أنه لا يجوز لغير القاضي والمفتي في المشكل عليه . حكاه القفال الشاشي عن بعض أصحابنا قال : لأنه في المشكل عليه كالعامي ، ولكن الحاكم لا ضرورة له إلى التقليد بما عنده من الأقاويل وتولي غيره الحكم فيه . وكذلك المفتي يفوض ذلك إلى غيره من أهل العلم ، بخلاف المجتهد إذا حلت به نازلة ، فإنه مضطر إلى تعريف الحكم ، فإذا اشتبه عليه ولم [ ص: 337 ] يصل إلى تعريف الحكم إلا بتقليد غيره وجب عليه . وهو قريب من السابع . والعاشر - أنه يجوز للقاضي دون غيره . وهذا ظاهر ما نقله الأستاذ أبو منصور عن ابن سريج ، فإنه نصب الخلاف في حاكم تحضره الحادثة ويضيق الوقت عن الاجتهاد . ونقل عن ابن سريج أنه يجوز له أن يحكم بالتقليد ولا يفتي به إلا بعد اجتهاده ، قال : وقال أكثر أصحابنا : ليس له الحكم بالتقليد ، كما ليس له الإفتاء ، وعليه أن يؤخر حتى يجتهد أو يستخلف من اجتهد فيه قبله . انتهى .

وقضيته أن المنع من الإفتاء محل وفاق . وجعل ابن كج في كتابه في الأصول والشيخ أبو علي السنجي الخلاف في تقليده في حق نفسه ، فإن أراد أن يقلده ليفتي غيره أو يحكم به على غيره ولم يجز له بالاتفاق . وحكى الماوردي وابن الصباغ والبغوي والرافعي عن ابن سريج : إن حضر ما ينوبه ، كالحكم بين المسافرين وهم على الخروج جاز أن يقلد غيره ويحكم . قال الرافعي : وينبغي أن يطرده في الفتوى . وخالف ابن الرفعة وفرق بأن المستفتي بسبيل من تقليد المجتهد . ولا ضرورة إذا ولا حاجة بإفتاء المقلد ، ولا كذلك الحاكم ، خصوصا إذا منع من الاستخلاف . الحادي عشر - الوقف . وبه يشعر كلام إمام الحرمين ، فإنه قال : يجوز في العقل ورود التعبد به ، ولكن لم يقم الدليل على وجوده . والأمران يسوغان في العقل وقد تبين في الشرع وجوب أحدهما ، وهو الإجماع على أن للمجتهد الاجتهاد ، فهذا الواجب لا يزول إلا بدليل ، ونوزع في الإجماع فإن المجوز يقول : الواجب إما الاجتهاد وإما التقليد ، فحقيقة قوله الوقف .

التالي السابق


الخدمات العلمية