صفحة جزء
[ ص: 158 ] الباء وهي للإلصاق الحقيقي والمجازي أي إلصاق الفعل بالمفعول ، وهو تعليق الشيء بالشيء واتصاله به ، وقال عبد القاهر : قولهم : الباء للإلصاق إن حمل على ظاهره أدى إلى الاستحالة لأنها تجيء بمعنى الإلصاق نفسه كقولنا : ألصقت به ، وحينئذ فلا بد من تأويل كلامهم ، والوجه فيه أن يكون غرضهم أن يقولوا للمتعلم : انظر إلى قولك : ألصقته بكذا ، وتأمل الملابسة التي بين الملصق والملصق به تعلم أن الباء أينما كانت الملابسة التي تحصل بها شبيهة بهذه الملابسة التي تراها في قولك : ألصقته به . انتهى .

وتجيء للاستعانة ، نحو ضربت بالسيف ، وكتبت بالقلم . وبمعنى المصاحبة ، كاشتريت الفرس بسرجه ، وجاء زيد بسلاحه . وبمعنى الظرف ، نحو جلست بالسوق . وتكون لتعدية الفعل ، نحو مررت بزيد . قال القرطبي ويمكن أن يقال : إن هذه المواضع كلها راجعة إلى الملابسة فيشترك في معنى كلي ، وهو أولى دفعا للاشتراك . قال : وأظن أن ابن جني أشار إلى هذا ، وقيل : إنها حيث دخلت على الآلة فهي للإلصاق . واختلفوا في كيفية الإلصاق فقيل : تفيد التعميم فيه فعلى هذا لا إجمال [ ص: 159 ] في قوله تعالى : { وامسحوا برءوسكم } بل تفيد تعميم مسح جميع الرأس وقيل : إنما تفيد إلصاق الفعل ببعض المفعول ، وعلى هذا فهي مجملة ; لأنه لا يعلم أن مسح أي بعض من الرأس واجب . وقيل : تقتضي الإلصاق بالفعل مطلقا ولا تقتضي بظاهره تعميما ولا تبعيضا ، وصححه صاحب " المصادر " ، ثم قال : والأولى أن يقال : إن دخلت على فعل متعد بنفسه أفادت التبعيض ; لأن الإلصاق الذي هو التعدي مفهوم من دونها فيجب أن يكون لدخولها فائدة وإن لم يكن متعديا بنفسه فإن فائدته الإلصاق والتعدية . اختيار صاحب " المحصول " و " المنهاج " وغيرهما أعني أنها إذا دخلت على فعل متعد بنفسه اقتضت التبعيض ، ونسب ذلك بعضهم إلى الشافعي أخذا من آية الوضوء ، وهو وهم عليه فإن مدركا آخر كما سبق في الواو . واحتج الإمام بأنا نفرق بالضرورة بين قولنا : مسحت يدي بالمنديل وبالحائط ، وبين قولنا : مسحت المنديل والحائط في أن الأول للتبعيض والثاني للشمول . وأجيب : بأن ذلك أمر آخر يرجع إلى الإفراد والتركيب ، وهو أن مسحت يدي بالمنديل سيق لإفادة ممسوح وممسوح به ، والباء إنما جيء بها لتفيد إلصاق الممسوح به التي هي الآلة بمسح المحل الذي هو اليد . وقوله : مسحت المنديل والحائط إنما سيق إلصاق المسح بالممسوح ، وإذا كان كذلك فكيف يحكم بعود الفرق إلى التبعيض مع أنه لا تبعيض في الكلام ؟

[ ص: 160 ] وقيل : إن دخلت الباء على آلة المسح نحو مسحت بالحائط وبالمنديل فهي للكل ، وإن دخلت على المحل نحو { وامسحوا برءوسكم } لا يتناول الكل . ووجهه أن الآلة غير مقصودة بل هي واسطة بين الفاعل والمنفعل في وصول أثره إليه ، والمحل هو المقصود في الفعل المتعدي فلا يجب استيعاب الآلة بل يكفي فيها ما يحصل به المقصود . وأنكر ابن جني وصاحب " البسيط " مجيئها للتبعيض ، وقالا : لم يذكره أحد من النحاة . قلت : أثبته جماعة منهم ابن مالك ، وقال : ذكره الفارسي في " التذكرة " ونقل عن الكوفيين وتبعهم فيه الأصمعي والعتبي . انتهى ، وكذا ابن مخلد في " شرح الجمل " ومثله بقوله : مسحت بالحائط ، وتيممت بالتراب ، واستحسنه العبدري في " شرح الإيضاح " قال : ووجهه عندي أن الباء الدالة على الآلة لا يلزم فيها أن يلابس الفعل جميعها ، ولا يكون العمل بها كلها بل ببعضها . والحق : أن التبعيض الأول بالقرينة لا بالوضع ، وليست الحجة بل هي ليست نصا في الاستيعاب ، فهي مجملة فيكتفى فيه بما يقع عليه الاسم ، ولو شعرة . وقال أبو البقاء : التبعيض لا يستفاد من الباء بل من طريق الاتفاق ، وهو يحصل الغرض من الفعل بتبعيض الآلة بل ظاهر الحقيقة يغطي الجميع .

ألا تراك : إذا قلت مسحت رأس اليتيم ، فحقيقته إن تم المسح بجميعه ، وإذا [ ص: 161 ] أمر ببعضه صح أن يقال : ببعض رأسه فلو كانت للتبعيض لا يستوي ذكر الكل والبعض وهو خلاف الحقيقة ؟ وقال الماوردي فيما نقله عنه ابن السمعاني : الباء موضوعة لإلصاق الفعل بالمفعول كقولك : مسحت يدي بالمنديل ، وكتبت بالقلم ، وقد يستعمل في التبعيض إذا أمكن حذفها ، كقوله تعالى { وامسحوا برءوسكم } أي بعض رءوسكم قال : وهو حقيقة في قول بعض أصحاب الشافعي مجاز في قول الأكثرين . انتهى .

وقال الغزالي في المنخول : ظن ظانون أنه للتبعيض مصدر يستقل بدونها كقوله تعالى : { وامسحوا برءوسكم } وتمسكوا بقولهم : أخذت زمام الناقة إذا أخذها من الأرض ، وأخذت بزمامها إذا أخذت طرفه . وليست الباء للتبعيض أصلا ، وهذا خطأ في أخذ الزمام ، ولكن من المصادر ما يقبل الصلات كقولهم : شكرت له ونصحت له ، وأما التبعيض في مسألة المسح مأخوذ من صفة المصدر فمصدر المسح لا يصير إلى الاستيعاب كمصدر الضرب بخلاف الغسل . انتهى . قيل : ومما يقطع النزاع في كونها ليست للتبعيض أنها لو كانت كذلك لامتناع دخولها على بعض للتكرار والتأكيد فيما دخلته بكل للتناقض ، فكان يمتنع أن يقال : مسحت ببعض رأسي ; لأنه بمنزلة بعض بعض رأسي ، ولا أن تقول : مسحت برأسي كله ; لأن الباء للتبعيض ، وكل لتأكيد الجمع ، وجمعهما على شيء واحد تناقض .

[ ص: 162 ] تنبيه جعلوها للتبعيض في آية الوضوء ، ولم يجعلوها للتبعيض في آية التيمم في قوله تعالى { فامسحوا بوجوهكم } وفرقوا بأن مسح الوجه في التيمم بدل ، وللبدل حكم المبدل ، فقيل لهم : إن أردتم أن حكمه حكم الأصل في الإجزاء فتحكم ولا يفيدكم في الفرق ، وإن أردتم أن صورة البدل لصورة أصله فغير صحيح ، فإن التيمم بدل عن الوضوء وهو في عضوين والوضوء في أربعة ، وبأن مسح الخف بدل عن غسل الرجلين ، ولا يجب في ذلك الاستيعاب . أجابوا عن ذلك بأن ذلك يفسد الخف ولأن مبناه على التخفيف حتى جاز مع القدرة على غسل الرجل بخلاف التيمم . نكتتان في الباء يغلط المصنفون فيها : الأولى أنهم يدخلونها مع فعل الإبدال على المتروك فيقولون : لو أبدلت ضادا بطاء . والصواب : العكس فإذا قلت أبدلت دينارا بدرهم فمعناه اعتضت دينارا عوض درهم ، فالدينار هو الحاصل لك المعوض والدرهم هو الخارج عنك المعوض به ، وهذا عكس ما فهمه الناس ، وعلى ما ذكرنا جاء كلام العرب . قال الشاعر :

تضحك مني أخت ذي النحيين أبدله الله بلون لونين     سواد وجه وبياض عينين



[ ص: 163 ] ألا ترى كيف أدخل الباء على المعوض منه وهو قوله : بلون ، ونصب لونين وهو المعوض ؟ وقال : تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } و { بدلناهم بجنتيهم جنتين } { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } أي : يستبدل بكم قوما غيركم ، وقال تعالى : { عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها } فحذف بها أي : بالجنة التي طيف بها . وقال : { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا } أي : يبدلهما به . وقد حذف حرف الجر لدلالة فعل الإبدال على العوض والمعوض كقوله تعالى : { يبدل الله سيئاتهم حسنات } أي بسيئاتهم . وهذا ذكره الشيخ أثير الدين في جموع التكسير من شرح التسهيل " . وكتب الشيخ تاج الدين التبريزي على الحاشية قال تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } ولا شك أن الجنة عوض لا معوض . وعلى هذا يتخرج كلام المصنفين حيث أدخلوا الباء على المأخوذ ، وإن لم يكن في الآية فعل الإبدال لكن الأكثر هو الأول والثاني فصحيح عربي . قلت : الدعوة مع فعل الإبدال ، وفي جريان ذلك في كل ما دل على معاوضة نظر ، فإنه لم يطرد فيه ، فقد جاء { اشتروا الضلالة بالهدى } فقد دخلت على المتروك وجاء عكسه وهو قوله تعالى { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } وحينئذ فلا يحسن رد التبريزي بالآية .

[ ص: 164 ] ويمكن أن يقال في هذه الآية : إن الضمير في " يقاتل " عائد على المسلمين والذين يشترون مفعول ، وفيه نظر . وكان المعنى في دخول الباء على كل منهما مع الشراء أن " اشتريت " و " بعت " كل منهما مستعمل بمعنى الآخر لكن الأكثر في " بعت " الإخراج عن الملك ، وفي " اشتريت " الإدخال . الثانية إدخالهم الباء مع فعل الاختصاص على المختص ، والصواب : إدخالها على المختص به ; لأن التخصيص إفراد بعض الشيء عما لا يشاركه فيه بالجملة فإذا قلت : اختص زيد بالمال . فمعناه أن زيدا منفرد عن غيره بالمال فهو المختص بمعنى اسم الفاعل ، والمال مختص به . والمختص أبدا هو المنفرد المحتوي أبدا على الشيء فهو كالظرف له ، والمختص به أبدا هو المأخوذ كالمظروف . فلو قلت : اختص المال بزيد تريد ما أردته بالمثال السابق لم يصح ; لأنك في المثال الأول حصرت المال في زيد ، وفي الثاني حصرت زيدا في المال ، فلا يكون له صفة غير الاحتواء على المال ، وهو غير المراد فإن زيدا قد يكون له صفات من دين وعلم وغيرهما . وبهذا يظهر حسن عبارة التسهيل : " وخص الجر بالاسم " على عبارة الخلاصة : " والاسم قد خصص بالجر " .

التالي السابق


الخدمات العلمية