الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 152 ] ومنها الفاء : وهي للترتيب وزيادة ، وهي التعقيب أي : أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن ، وهو معنى قولهم : إنها تدل على الترتيب بلا مهلة أي : في عقبه ولهذا قال المحققون منهم : إن معناها التفرق على مواصلة . وهذه العبارة تحكى عن الزجاج وأخذها ابن جني في لمعه " . ومعنى التفرق أنها ليست للجمع كالواو ، ومعنى على مواصلة أي : أن الثاني لما كان يلي الأول من غير فاصل زماني كان مواصلا له . واستدل الفارسي في " الإيضاح " على ذلك بوقوعها في جواب الشرط ، نحو إن دخلت الدار فأنت طالق . يريد أن الجواب يلي الشرط عقبه بلا مهلة . وأما قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } قال الهروي وغيره معناه قرب هلاكها . وقال المتأخرون : أي أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا ، وفيه نظر من جهة علم الكلام . وقيل : لما كان مجيء البأس مجهولا عند الناس قدر كالعدم ، ولما حصل الهلاك اعتقدوا وجوده فحسن دخول الفاء . وقيل : ليست عاطفة ، وإنما هي سببية ، والفاء السببية لا يشترط فيها التعقيب ، فإنك تقول : أكرمت زيدا أمس ، فأكرمني اليوم ، وهذا تأويل [ ص: 153 ] ظاهر ، وعليه ينبغي أن يحمل قوله تعالى : { فتصبح الأرض مخضرة } ثم الترتيب إما في الزمان نحو { خلقك فسواك } ولهذا كثر كون تابعها مسببا ، نحو ضربته فهلك ، أو في الذكر ، وهو عطف مفصل على مجمل هو ، نحو { ونادى نوح ربه فقال رب } أو متأخر عما قبله في الإخبار نحو : بسقط اللوى بين الدخول فحومل وزعم الفراء أنها تأتي لغير الترتيب ، وهذا مع ما نقل عنه من أن الواو تفيد الترتيب عجيب ، وهو يوقع خللا في ذلك النقل ، فإنه قد ذكر هذا في معاني القرآن في قوله تعالى { ثم دنا فتدلى } المعنى ثم تدلى فدنا ، ولكنه جائز إذا كان المعنى في الفعلين واحدا ، أو كالواحد قدمت أيهما شئت فقلت : دنا فقرب أو قرب فدنا ، وشتمني فأساء ، أو أساء فشتمني ; لأن الشتم والإساءة واحد . ونوقش بأن القلب إنما يصح فيما يكون كل واحد مسببا وسببا من وجهين ، فيكون الترتيب حاصلا قدمت أو أخرت ، فقولك : دنا فقرب . الدنو علة القرب ، والقرب غايته . فإذا قلت : دنا فقرب ، فمعناه لما دنا حصل القرب ، وإذا عكست فقلت : قرب فدنا ، فمعناه قرب فلزم منه الدنو ، ولا يصح في قولك : ضربته فبكى ; لأن الضرب ليس غايته البكاء بل الأدب ، أو شيء آخر ، وكذلك أعطيته فشنعا . وقال الجرمي : لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل [ ص: 154 ] قوله : بين الدخول فحومل . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : نص الفارسي في " الإيضاح " على أن " ثم " أشد تراخيا من الفاء فدل على أن الفاء لها تراخ ، وكذلك ذكر غيره من المتقدمين ، ولم يدع أنها للتعقيب إلا المتأخرون . قلت : وهي عبارة أبي بكر بن السراج في أصوله " ، فقال : و " ثم " مثل الفاء إلا أنها أشد تراخيا ، وقال ابن الخشاب : ظاهره أن في الفاء تراخيا جما ; لأن أشد " أفضل للتفضيل " ولا يقع التفضيل إلا بين مشتركين في معنى ، ثم يزيد المفضل على المفضل عليه في ذلك المعنى ، ولا تراخي تدل عليه الفاء فيما بعدها عما قبلها إلا أن يكون أبو بكر عد تعقيب الفاء وترتيبها تراخيا فذلك تساهل في العبارة وتسامح . ثم شرع في تأويل عبارة أبي بكر على أن " أفعل التفضيل " قد لا يراد به ظاهره كقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } ومن البين أنه لا خير في مستقر أهل النار . قلت : ولا حاجة إلى هذا فقد صرح عبد القاهر الجرجاني ، فقال في الفاء : إن أصلها الإتباع ، ولذلك لا تعرى عنه مع تعريها عن العطف في جواز الشرط ، ولكن مع ذلك لا ينافي التراخي اليسير . ا هـ .

                                                      وكذا قال غيره : معنى التراخي فيها وإن لطف فإن من ضرورة التعقيب تراخي الثاني عن الأول بزمان وإن قل بحيث لا يدرك ; إذ لو لم يكن كذلك كان مقارنا ، والقرآن ليس بموجب له ، وأنت إذا علمت تفسيرنا التعقيب بحسب ما يمكن زال الإشكال . وقد جوزوا " دخلت البصرة فالكوفة " ، وبين الدخولين تراخ ومهلة ، وقال تعالى : { والذي أخرج [ ص: 155 ] المرعى فجعله غثاء أحوى } فإن بين الإخراج والإحواء وسائط . وقال ابن أبي الربيع : الاتصال يكون حقيقة ويكون مجازا ، فإذا كان حقيقة فلا تراخي فيه وإذا كان مجازا ففيه تراخ بلا شك ، كقولك : دخلت البصرة فالكوفة وإنما جاءت الفاء ; لأن سبب دخول الكوفة اتصل بدخول البصرة ، فلم يكن بينهما مهلة . وقد يكون التراخي بينهما قليلا فيكون كالمستهلك لكونه غير مفتقر لعلته ، فتدخل الفاء كذلك .

                                                      ومن هذا يعلم وجه التعقيب في قوله صلى الله عليه وسلم { لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } وبظاهره تمسك أهل الظاهر في إيجاب عتقه ، وأنه لا يعتق بمجرد الشراء فإنه لو أعتق بنفس الشراء لم يكن لقوله : " فيعتقه " معنى . وقال الأئمة : فائدته التنبيه على أن الإعتاق بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال : أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه . أي : بهذا الإطعام ; إذ لو كان الإشباع بغيره لم يكن متصلا به ، لا يقال : لا يصح أن يكون الإعتاق حكما للشراء ; لأن الشراء موضوع لإثبات الملك ، والإعتاق إزالة ، فكان منافيا له ، والمنافي لحكم الشيء لا يصلح أن يكون حكما لذلك الشيء ; لأنا نقول : إنه بنفسه لا يصلح أن يكون حكما له ولكنه يصلح بواسطة الملك ، وذلك ; لأنه بالشراء يصير متملكا ، والملك في الوقت إكمال لعلة العتق فيصير العتق مضافا إلى الشراء بواسطة الملك ، وإذا صار مضافا إليه يصير به معتقا ، وحينئذ لا يحتاج إلى إعتاق آخر . [ ص: 156 ]

                                                      ثم ظاهر كلام جماعة أنه لا فرق في كونها للتعقيب بين العاطفة والواقعة جوابا للشرط وسبق في كلام الفارسي الاستدلال بجواب الشرط ، فاقتضى أنه محل وفاق . وقال ابن الخشاب في " العوني " : المعنى الخاص بالفاء التعقيب فلا تكون عاطفة إلا معقبة ، وقد تكون معقبة غير عاطفة ، كقوله تعالى { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما } والفاء في هذا وشبهه عاطفة معقبة ، ونظيره في الكلام : جاء زيد فعمرو ، وأما المعقبة غير العاطفة كالواقعة في جواب الشرط ; لأن الجواب يعقب الشرط ، ولا يعطف عليه ; إذ لو عطف عليه لكان شرطا أيضا لا جوابا انتهى . وقال أبو الوليد الباجي : هي عند النحويين للتعقيب في العطف ، وأما في الجواب فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى أنها للتعقيب أيضا . وليس بصحيح بدليل قوله تعالى : { لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب } ولأنك تقول : إذا دخلت مكة فاشتر لي عبدا ، فإنه لا يقتضي التعقيب . انتهى .

                                                      ولهذا اختار القرطبي أنها رابطة للجزاء بالشرط لا غير ، وأن التعقيب غير لازم بدليل قوله تعالى : { فيسحتكم } وقوله { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } وليس فيها جزاء عقب شرطه . وحمله الأولون على المجاز ; لأن الإسحات لما تحقق وقوعه نزل منزلة الواقع عقبه . وما نقله الباجي يباينه مباينة ظاهرة ما نقله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في أصوله " فإنه قال ما نصه : إن الفاء إن كانت للجزاء فلا [ ص: 157 ] خلاف أنها للتعقيب كقولك : جاءني فضربته وشتمني فحددته . واختلفوا فيما إذا كانت للعطف فقيل : كالأول وقيل كالواو . ا هـ .

                                                      لكن الخلاف في الجزاء ثابت ، وجعلوا من فوائده الخلاف في وجوب استتابة المرتد فإنه عليه الصلاة والسلام قال : { من بدل دينه فاقتلوه } فإن جعلناه للتعقيب كان دليلا على عدم الوجوب وإلا فلا . وأنكر القاضي أبو بكر كونها للتعقيب إذا وقعت في جواب الأمر والنهي . ودافع المعتزلة عن الاستدلال على خلق القرآن بقوله تعالى : { كن فيكون } فإن الفاء هنا للتعقيب من غير تراخ ولا مهلة ، وإذا كان الكائن الحادث عقب قوله : " كن " من غير تراخ ولا مهلة اقتضى ذلك حدث القول الذي هو " كن " . واشتد نكير القاضي في كون الفاء تقتضي التعقيب في مثل هذا ، ورأى أنها تقتضيه في العطف فقط ، وليس هذا منه ، وعلى هذا فلا يحسن الاستدلال بها على الترتيب في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وأنه إذا ثبتت البداءة بالوجه ثبت الترتيب في الباقي ; إذ لا قائل بالفرق . قيل : وأصل الفاء أن تدخل على المعلول لأنها للتعقيب ، والمعلول يعقب العلة ، وقد تدخل على العلة باعتبار أنها معلول كقوله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } وسيأتي له مزيد في باب القياس إن شاء الله تعالى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية