صفحة جزء
إنما : والكلام فيها في مواضع : الأول : هل هي تفيد الحصر أو لا ؟ قولان . وإذا قلنا : تفيده ، فهل هو بالمنطوق يعني أنها وضعت للإثبات والنفي معا أي : لإثبات المذكور ونفي ما عداه أو للإثبات خاصة وللنفي بطريق المفهوم ؟ قولان . وبالأول قال القاضي أبو حامد المروذي فيما حكاه الشيخ أبو إسحاق في التبصرة " قال : مع نفيه القول بدليل الخطاب لكن الماوردي في أقضية الحاوي " نقل عن أبي حامد المروروذي وابن سريج أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل من الاحتمال . وبالثاني قال القاضي والغزالي وذكراه في بحث المفاهيم ، وقال سليم الرازي في التقريب " : إنه الصحيح .

[ ص: 237 ] وقال ابن الخوبي : هذا الخلاف مبني على أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا ؟ فإن قلنا : إنه إثبات فالحصر ثابت بالمنطوق ، وإلا فهو من طريق المفهوم ، وهذا الكلام يقتضي جريان هذا الخلاف في " ما " و " إلا " وهو بعيد ، والقول بأنها لا تفيده أصلا هو رأي الآمدي ، وإنما يفيد تأكيد الإثبات وبه يشعر كلام إمام الحرمين في البرهان " حيث قال : فأما ما ليس له معنى ، فما الكافة تعمل ما يعمل دونها تقول : إن زيدا منطلق ، وإنما زيد منطلق . وحكاه ابن الفارض المعتزلي في النكت " عن أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم . قال : وهو يحكى عن أهل اللغة . ونصره ابن برهان النحوي في شرح اللمع " واختاره الشيخ أبو حيان . واشتد نكيره على من خالفه ، ونقله عن البصريين . ونقل الغزالي عن القاضي أنه ظاهر في الحصر ، ويحتمل التأكيد ثم قال : وهو المختار ، ووافقه إلكيا ، والذي في التقريب " للقاضي أنها محتملة لتأكيد الإثبات ومحتملة للحصر ، وزعم أن العرب استعملتها لكل من الأمرين ، ثم قال : ولا يبعد أن يقال : إنها ظاهرة في الحصر . وأنكر ابن الحاج في تعليقه على المستصفى " والعبدري في شرحه " إفادتها الحصر وقالا : إنه غير معروف في اللغة : وإنما معناه الاقتصار على الشيء .

قال ابن السيد : قال نحاة البصرة : معناها الاقتصار كقولك : إنما زيد شجاع ، لمن ادعى له غير ذلك من الصفات ، والتحقير كقولك : إنما وهبت درهما ، لمن يزعم أنه وهب أكثر من ذلك ، وهذا راجع إلى الاقتصار . وقد يستعمل في رد النفي إلى حقيقته إذا وصف بما لا يليق به ، كقوله تعالى : { إنما الله إله واحد } { إنما أنا بشر مثلكم } .

[ ص: 238 ] وهو راجع للأول . قالا : فإن أراد القاضي بالحصر الاقتصار فقد أصاب ، وإلا ففيه نظر . وتابعهما الشيخ أبو حيان في إنكار إفادتها الحصر ، وقال : إنه معروف في اللغة وهو عجيب ، فقد حكاه ابن السيد في الاقتضاب " عن الكوفيين . فقال : وذكر الكوفيون أنها تستعمل بمعنى النفي ، واحتجوا بقول الفرزدق :

. وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

ومعناه ما يدافع إلا أنا أو مثلي هذا كلامه . وفي الزاهر " للأزهري عن أهل اللغة أنها تقتضي إيجاب شيء ونفي غيره ، وقال صاحب البرهان " : قال أبو إسحاق الزجاج : والذي أختاره في قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة } أن تكون " ما " هي التي تمنع " إن " من العمل ، ويكون المعنى : ما حرم عليكم إلا الميتة ; لأن " إنما " تأتي لإثبات ما بعدها ونفي ما عداه .

وقال أبو علي في الشيرازيات " يقول ناس من النحويين { إنما حرم ربي الفواحش } المعنى : ما حرم إلا الفواحش ، قال : وأجيب ما يدل على صحة القول في ذلك ، وهو قول الفرزدق .

. وإنما     يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

وعزاه ابن السيد للكوفيين ، ولم يعنوا بذلك أنهما بمنزلة المترادفين فإنه [ ص: 239 ] يمتنع إيقاع كل منها موضع الآخر على الإطلاق . انتهى . وممن ذكر أنهما للحصر الرماني عند تفسير قوله تعالى : { إنما يستجيب الذين يسمعون } فقال : إنما تفيد تخصيص المذكور بالصفة دون غيره بخلاف " إن " كقولك : إن الأنبياء في الجنة ، فلا تمنع هذه الصيغة أن يكون غيرهم فيها كما منع إنما هم في الجنة . انتهى .

وكذا قال الزمخشري عند قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء } وكذا ابن عطية في غير موضع ، وقال ابن فارس : سمعت علي بن إبراهيم القطان يقول : سمعت ثعلبا يقول : سمعت سلمة يقول : سمعت الفراء يقول : إذا قلت : إنما قمت ، فقد نفيت عن نفسك كل فعل إلا القيام ، وإذا قلت : إنما قام أنا ، فقد نفيت القيام عن كل أحد وأثبته لنفسك . قال الفراء : ولا يكون ابتداء إلا ردا على أمر ، ولا يكون ابتداء كلام . قال ابن فارس : والذي قاله الفراء صحيح وحجته : { إنما الولاء لمن أعتق } . قلت : ينبغي أن يكون الرد لأمر محقق أو مقدر ، وإلا لورد عليه { إنما الأعمال بالنيات } ونحوه . [ ص: 240 ] من أحسن ما يستدل به أنها للحصر : قوله تعالى : { إنما يتقبل الله من المتقين } ; لأنه لم يتقبل من أخيه ، فلو كان يتقبل من غير المتقين لم يجز الرد على الأخ بذلك ، ولو كان المانع من عدم القبول فوات معنى في المتقرب به لا في الفاعل لم يحسن ذلك ، فكأنه قال : استوينا في الفعل وانحصر القبول في بعلة التقوى ، وكذلك قوله تعالى : { وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } فإنها لو لم تكن للحصر لكان بمنزلة قولك : فإن تولوا فعليك البلاغ ، وهو عليه البلاغ تولوا أم لا ، وإنما الذي رتب على توليهم نفي غير البلاغ ليكون تسلية له أن توليهم لا يضره ، وهكذا أمثال هذه الآية مما يقطع الناظر بفهم الحصر ، كقوله تعالى : { أنما إلهكم إله واحد } { إنما الله إله واحد } { إنما أنت منذر } { إنما أنت نذير } { إنما تعبدون من دون الله أوثانا } { إنما مثل الحياة الدنيا } { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } { إنما البيع مثل الربا } { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء } { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله } { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } { إنما الآيات عند الله } وقوله تعالى .

[ ص: 241 ] { إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } { قل إنما يأتيكم به الله إن شاء } { قل إنما علمها عند ربي } فإنه إنما يحصل بها مطابقة الجواب إذا كانت " إنما " للحصر ، ليكون معناها لا آتيكم إنما يأتي به الله ، ولا أعلمها إنما يعلمها الله ، وقوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } قال ابن فارس : وزعم بعضهم مجيئها للتحقير تقول : إنما أنا بشر محقرا لنفسك ، ورده بقوله تعالى : { إنما الله إله واحد } وحكى ابن بابشاذ عن بعض النحاة أنها تجيء للتعليل ، واحتج بقول سيبويه : إنما سرت حتى أدخلها أنك إذا بيت السير وقيل : تجيء للتأكيد نحو إنما الرجل زيد . قال ابن دقيق العيد : والأقرب أنها فيه للحصر المجازي ، أو بجعل المجاز في الألف واللام التي في الرجل بأن يستعمل للكمال ويحصر الكمال فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية