صفحة جزء
مسألة [ تصريح الأمر بالفعل في أي وقت شاء ] الأمر إن صرح الآمر فيه بالفعل في أي وقت شاء ، أو قال : لك التأخير ، فهو للتراخي بالاتفاق ، وإن صرح به للتعجيل فهو للفور بالاتفاق ، وإن كان مطلقا أي : مجردا عن دلالة التعجيل أو التأخير وجب العزم على الفور على الفعل قطعا . قاله الشيخ أبو إسحاق . وهل يقتضي الفعل على الفور بمعنى أنه يجب المبادرة عقبه إلى الإتيان بالأمور به أو التراخي أما القائلون باقتضائه التكرار فالفور من ضرورياته كما قاله الشيخ أبو حامد وغيره .

وأما المانعون فاختلفوا على مذاهب : أحدها : أنه يقتضي الفور ، وبه قالت الحنفية والحنابلة وجمهور المالكية والظاهرية ، واختاره من أصحابنا أبو بكر الصيرفي والقاضي أبو حامد المروروذي والدقاق ، كما حكاه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وسليم الرازي . وقال القاضي الحسين في باب الحج من تعليقه " : إنه الصحيح من مذهبنا قال : وإنما جوزنا تأخير الحج بدليل من خارج . وحكى في كتابه الأسرار " عن القفال الجزم به محتجا بأن الأمر يقتضي [ ص: 327 ] اعتقادا بالقلب ، ومباشرة بالبدن ، ثم الاعتقاد على الفور فكذا المباشرة ، وأيضا فإن أوامر العباد حملت على الفور ، وجزم به المتولي في باب الزكاة من التتمة " ونقله صاحب المصادر " عن المزني وأبي عبد الله البصري . قال الشيخ أبو حامد : وهو قول أهل العراق وأهل الظاهر وداود ، وحكاه الكرخي عن أصحاب الرأي ، ونصره أبو زيد الرازي ، وقال القاضي عبد الوهاب : عليه تدل أصول أصحابنا : وقال : إنه الذي ينصره أصحابنا ويذكرون أنه قضية مذهب مالك ، وقال أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد " إنه الذي يقتضيه ظاهر مذهبهم . والقائلون بالفورية اختلفوا كما قاله الأستاذ وابن فورك وصاحب المصادر " إذا لم يفعله في أول الوقت ، فقيل : يجب بظاهره أن يفعل في الثاني ، وقيل : لا يجب إلا بأمر ثان ، ولا يقتضي إلا إيقاع الفعل عقبه فقط وسيأتي : قال ابن فورك : واختلفوا أيضا هل اقتضاؤه الفور من مقتضى اللفظ أي : باللغة أو بالعقل ؟ وزيف الثاني ، وقال : إنما النزاع في مقتضاه في اللسان .

والثاني : أن الواجب إما الفور أو العزم ونقله صاحب المصادر " عن أبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار وحكاه ابن الحاجب عن القاضي قيل وبناه على أصله في الموسع لكن الذي رأيته في التقريب " للقاضي اختيار أنه على التراخي ، وبطلان القول بالوقف . قال إمام الحرمين في مختصره " : وهو الأصح إذ المصير إليه يؤدي إلى خرق الإجماع أو يلزمه ضرب من التناقض .

[ ص: 328 ] والثالث : أنه لا يفيد الفور ، وله التأخير بشرط أن لا يموت حتى يفعله ، وهو قول الجمهور من أصحابنا ، كما قاله الأستاذ أبو منصور وسليم الرازي . قال : وهو ظاهر قول الشافعي في الحج ، وإليه ذهب طائفة من الأشعرية وسائر المعتزلة ، ونقله أبو الحسين بن القطان عن نص الشافعي لما ذكره في تأخير الحج . وقال الشيخ أبو حامد : ظاهر قول الشافعي يقتضي أن الأمر على التراخي على حسب ما قاله في الحج ، وهو الصحيح من المذهب ، وقال إمام الحرمين وابن القشيري : عزوه إلى قول الشافعي وهو اللائق بتفريعاته بالفقه ، وإن لم يصرح به في مجموعاته في الأصول . وقال ابن برهان في الوجيز " : لم ينقل عن الشافعي ولا أبي حنيفة نقل في المسألة ، وإنما فروعهما تدل على ما نقل عنهما .

قال : وهذا خطأ في نقل المذاهب ، إذ الفروع تبنى على الأصول لا العكس ، ونقله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عن أبي علي بن خيران وابن أبي هريرة وأبي بكر القفال وأبي علي الطبري صاحب الإفصاح " وكذا نقله ابن برهان في الأوسط " عن القاضي ، وزاد أبا علي وأبا هاشم الجبائيين ، ونقله عنهما صاحب المعتمد " أيضا : قال : وجوزوا تأخير المأمور به عن أول وقت الإمكان واختاره الغزالي والإمام والهندي وأتباعهم . وقال في البرهان " : ذهب القاضي أبو بكر البصري إلى ما اشتهر عن الشافعي من حمل الصيغة على اتباع الامتثال من غير نظر إلى وقت مقدم [ ص: 329 ] أو مؤخر ، وهذا يدفع من قياس مذهبه مع استمساكه بالوقف وتجهيله من لا يراه . والرابع : أنه يقتضي التراخي ، كذا أطلقه جماعة منهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني وابن برهان وابن السمعاني وغيرهم ، وحكوه عمن تقدم ذكره من أصحابنا ، وقال القاضي في التقريب " : إنه الوجه عنده ، وقال ابن السمعاني : إنه الصحيح قال : ومعنى قولنا : إنه على التراخي أنه ليس على التعجيل ، وليس معناه أن له أن يؤخره عن أول أوقات الفعل .

قال : وبالجملة إن قوله : " افعل " ليس فيه عندنا دليل إلا على طلب الفعل فحسب من غير تعرض للوقت . انتهى . وعلى هذا فهو المذهب الثالث . وقال السرخسي الذي يصح عندي من مذهب علمائنا : أنه على التراخي ولا يثبت حكم وجوب الأداء على الفور بمطلق الأمر . نص عليه في الجامع " ، فمن نذر أن يعتكف شهرا له أن يعتكف أي شهر شاء ، وكان الكرخي يقول : إنه على الفور ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي ، وكذا حكاه صاحب اللباب " عن البزدوي ، فقال قال الإمام أبو اليسر البزدوي : لا خلاف عندنا أن الوجوب مطلق على حسب إطلاق الأمر لكن يشترط أن لا يفوت الأداء قبل الموت .

وقال أصحاب الشافعي : لا بل مطلق الأمر عن الوقت المبادرة ، وإنما يبين هذا في باب الزكاة بعد تمام الحول هل يصير مكلفا بالأداء للحال ؟ فعندنا لا يصير مكلفا بل الأداء موسع له في عمره ، وعندهم يتحتم الأداء في الحال .

[ ص: 330 ] وقال القاضي أبو بكر في التقريب " : الوجه عندنا في ذلك القول بأنه على التراخي دون الفور والوقت ، انتهى . وهذا خلاف ما تقدم النقل عنه . والخامس : الوقف إما لعدم العلم بمدلوله أو لأنه مشترك بينهما ، وصححه الأصفهاني في قواعده " ، وحكاه صاحب المصادر " عن الشريف المرتضى . فقال : وذهب إلى الوقف من جهة اللغة ، وأما من حيث عرف الشرع فإنه عنده على الفور ، ثم افترقت الواقفية ، فقيل : إذا أتى بالمأمور به في أول الوقت كان ممتثلا قطعا وإن أخر عن الوقت الأول لانقطع بخروجه عن العهدة ، واختاره إمام الحرمين في البرهان " وفي كلام الآمدي خلل عنه ، وقيل : إنه ، وإن بادر إلى فعله في الوقت لا يقطع بكونه ممتثلا ، وخروجه عن العهدة لجواز إرادة التراخي . قال ابن الصباغ في العدة " : وقائل هذا لا يجوز فعله على الفور لكنه خالف الإجماع قبله . والحاصل : أنه مذهب منسوب إلى خرق الإجماع . تنبيهات الأول أن الكلام في هذه المسألة مبني على ثبوت الواجب الموسع ، وهو الصحيح ومن لا يعترف به فلا كلام معه ، قاله إلكيا الطبري .

[ ص: 331 ] الثاني أنه قد اشتهر حكاية قول التراخي ، وقال الشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين وابن القشيري وغيرهم : إن هذا الإطلاق مدخول ; إذ مقتضاه أن الصيغة المطلقة تقتضي التراخي ، حتى لو فرض الامتثال على البدار لم يعتد به ، وهذا لم يصر إليه أحد ، فالأحسن في العبارة عن هذا القول أن يقال : الأمر يقتضي الامتثال من غير تخصيص بوقت . انتهى . ولهذا قال الشيخ أبو حامد : إن العبارة الصحيحة أن يقال : لا يقتضي الفور والتعجيل ، قال : ومعنى أنه على التراخي أنه يجوز تأخيره ، لا أنه يجب تأخيره فإن أحدا لا يقول ذلك . انتهى لفظه . وقد سبق عن ابن الصباغ حكاية قول : إن المبادرة لا يعتد بها ، وحكى الغزالي في المستصفى " الخلاف أيضا في المبادر هل هو ممتثل أم لا ؟ فقال : أما المبادر فممتثل مطلقا ، ومنهم من غلا ، فقال : يتوقف في المبادر .

وحكى الإبياري في شرح البرهان " أن بعض الأصوليين ذهب إلى أن من أخر لا يعتد منه بما فعل مؤخرا قال : وعلى هذا فالترجمة لا مؤاخذة عليها وعلى ما ذكره الإمام فالتعبير بالفور يشعر بأن المؤخر ليس بممتثل ، وقد قال الإمام في آخر المسألة : إنه لم يقله أحد . الثالث : قيل : الخلاف في هذه المسألة لا يكون إلا في الواجب دون الندب . وقيل : يكون فيهما ، قال القاضي عبد الوهاب : وهو الصحيح . قال : واتفقوا على أنها لا تتصور على مذهب من يقول : الأمر للدوام [ ص: 332 ] والتكرار ; لأنه إذا كان كذلك استغرق الأوقات . ثم اختلف الفورية ، هل يجب تعلق الأمر المدعى ذلك فيه بفعل واحد أو بجملة أفعال ؟ فقيل : يختص بالفعل الواحد ، وقيل : يعمها ، والقائلون بأنه يقتضي واحدا إذا ترك المكلف إيقاعه عقب الأمر هل يجب عليه فعل مثله ، أو بدل منه بنفس الأمر به أو لا يجب إلا بأمر مستأنف ؟ واختلف القائلون بالتراخي هل يجوز تأخيره إلى غاية محدودة أو لا ؟ فقيل : يجوز إلى غاية بشرط السلامة ، فإن مات قبل الأداء مات آثما ، وقيل : لا إثم إلا أن يغلب على ظنه فواته إن لو لم يفعل ، وفصل آخرون ، فقالوا : قد يكون إلى غاية ، وهي أن لا يغلب على ظنه أنه يموت فإن مات كان معذورا غير آثم ، وقد يكون إلى غاية محددة ، وهي أن يغلب على ظنه الاخترام عند حصولها ، فحينئذ يتعجل ، واختاره القاضي . انتهى .

وقال أبو الحسين بن القطان : حيث قلنا : لا يفيد الفور فله التأخير بشرط أن لا يموت حتى يفعله ، فإن قيل : فإذا أخر لم يأثم فلم أثمتموه بعد الموت ؟ قلنا : إنما جوزنا له التأخير على وصف ، فإذا مات ولم يفعله علمنا أنه لم يكن له التأخير . قال : ونظيره رامي الغرض يرمي على غرر يحتمل أن يصيب وأن لا يصيب ، وكذلك قوله في الوصية والكفارة فإن قيل : متى يكون عاصيا ؟ قيل : من أصحابنا من قال : يكون في جميع السنين عاصيا ، كما يقول في السكر : إنه لم يقع بالقدح الأخير دون ما تقدمه من الأقداح كذلك هذا ، وكان أبو حفص يقول : إذا مضت عليه سنة فأمكنه أن يحج فلم يفعل ومات قبل السنة الثانية علم أن حجه لم يكن له إلا وقت واحد فكان عاصيا ، فإذا بقي إلى السنة الأخرى فأخر عنها ومات ، علم أن حجه كان له ومات فكان عاصيا به في السنة الثانية دون الأولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية