صفحة جزء
[ ص: 339 ] فصل فيما يجوز تخصيصه

من حق التخصيص أن لا يكون إلا فيما يتناوله اللفظ ، فاللفظ الذي لا يتناول إلا الواحد لا يجوز تخصيصه بمعنى إخراج بعض الجزئيات منه ، لأنه إخراج البعض مع بقاء البعض ، والواحد لا بعض له ، فاستحال تخصيصه . ولهذا قال ابن الحاجب : لا يجوز تخصيص إلا في ذي أجزاء يصح افتراقها ، ليمكن صرفه إلى بعض يصح القصر عليه . واعترض القرافي بأن الواحد يندرج فيه الواحد بالشخص ، وهو يصح إخراج بعض أجزائه ، لصحة قولك : رأيت زيدا وتريد بعضه ، وإن تعذر إخراج بعض الجزئيات ، فينبغي التفصيل .

وأما الذي يتناول أكثر من واحد ، فإما أن يكون عمومه من جهة اللفظ أو المعنى ، أي الاستنباط . فالأول يتطرق إليه التخصيص أمرا أو خبرا ، نحو { فاقتلوا المشركين } ، ثم خص الذمي ومن في معناه . والثاني على ثلاثة أقسام .

أحدها : العلة وقد اختلف في تخصيصها على مذاهب كثيرة ، والمنقول عن الشافعي والجمهور المنع وستأتي المسألة في باب القياس إن شاء الله تعالى ، وهي المسألة المسماة هناك بالنقص كالنهي عن بيع الرطب بالتمر ، [ ص: 340 ] لأجل النقصان عند الجفاف ، ووجدنا هذه العلة في العرايا مع أن الشارع جوزه فيها .

الثاني : مفهوم الموافقة كدلالة التأفيف على حرمة الضرب ، فالتخصيص فيه جائز بشرط بقاء الملفوظ ، وهو التأفيف في مثالنا هذا . ومنع القاضي أبو بكر ، والشيخ أبو إسحاق وسليم في " التقريب " من جواز تخصيص مفهوم الموافقة لمعنيين :

أحدهما : أن التخصيص إنما يكون في العموم ولا عموم إلا في الألفاظ .

الثاني : أنه لما قال : { فلا تقل لهما أف } وكان المنع من أجل الأذى ، لم يجز أن يدل دليل على إجازة الضرب مع أن فيه أذى ، لأنه يناقض الأول ، قالوا : وهكذا القياس لا يدخله تخصيص .

ويحتمل أن هاتين العلتين تنبنيان على الوجهين في المعلوم من جهة الفحوى : هل هو من جهة اللغة ، أو من جهة القياس ؟ وفيه وجهان ، وشرط الهندي في الجواز أن لا يعود نقصا على الملفوظ كإباحة ضرب الأم إذا فجرت . أما إذا عاد نقضا على الملفوظ كما إذا قال : { فلا تقل لهما أف } لكن أباح له نوعا من أنواع الأذى مطلقا ، فلا يجوز هذا كله مع بقاء مدلول اللفظ ، أما لو ورد دليل يدل على إخراج الملفوظ وهو " التأفيف " مثلا ، فإنه لا يكون تخصيصا ، بل نسخا له ، وللمفهوم أيضا ، لأن رفع الأصل يستلزم رفع الفرع .

الثالث : مفهوم المخالفة كسائمة الغنم ، فإن مفهومه نفي الإيجاب عن [ ص: 341 ] معلوفة الغنم ، فيجوز أن يقوم الدليل على ثبوت مثل حكم المذكور لبعض المسكوت عنه ، الذي ثبت فيه المفهوم خلاف ما ثبت للمنطوق ، ويعمل بذلك جمعا بين الدليلين ، فتخص المعلوفة المعدة للتجارة من هذا العموم .

وشرط البيضاوي وصاحب " الحاصل " للجواز أن يكون المخصص راجحا ، ولم يذكره الإمام ، والظاهر عدم اشتراطه ، إذ لا يشترط في المخصص الرجحان .

ومنهم من منع من تخصيصه ، كما حكاه ابن برهان في " الوجيز " وهو احتمال للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وحكى ابن برهان عن القاضي أبي بكر أنه منع تخصيص مفهوم الموافقة ، لأنه يوجب اللفظ ، واختار تخصيص مفهوم المخالفة ، لأنه لا يوجبه ، والذي رأيته في كتاب " التقريب " للقاضي المنع فيهما مطلقا . نعم هذا اختيار سليم الرازي في كتاب " التقريب " ، فإنه منع دخول التخصيص لمفهوم الموافقة ، ثم قال : وأما مفهوم المخالفة فحكمه حكم اللفظ ، إن تناول واحدا لم يدخله تخصيص ، وإن تناول أشياء دخله التخصيص .

قال " شارح اللمع " تخصيص دليل الخطاب قبل استقرار حكمه ينبني على الوجهين فيه : هل هو كالنطق أو كالقياس ؟ فإن قلنا : كالقياس لم يجز تخصيصه ، وإن قلنا : كالنطق ففي تخصيصه وجهان ، ذكرهما الشيخ أبو إسحاق ، مبنيان على المعنى في فحوى الخطاب . قال : فأما إذا استقر كان ما يرد مناقضا له من باب النسخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية