مسألة العام إذا خص فإما أن يخص بمبهم أو معين  فإن خص بمبهم كما لو قال : اقتلوا المشركين إلا بعضهم فلا يحتج به على شيء من الأفراد ، إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج لأن إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولا ولهذا لو قال بعتك هذه الصبرة إلا صاعا منها لا يصح ، ومثله في " المنخول " بما لو تمسك في مسألة الوتر بقوله : افعلوا الخير لأن المستثنى من عموم هذا الأمر غير معلوم فيكون مجملا . 
وهذا قد ادعى ، فيه جماعة الاتفاق منهم  القاضي أبو بكر  ، وابن السمعاني  في " القواطع " ، والأصفهاني  في " شرح المحصول " . وقال لم يذهب أحد إلى أنه حجة إذا كان المخصص مجملا .  [ ص: 358 ] قال القاضي    : ولا يجوز استعماله إلا في أمر واجب على التراخي عند من أجاز تأخير بيان العام    . ولا يجوز عند من منع ذلك في أمر على الفور . 
قلت    : وما ذكروه من الاتفاق ليس بصحيح ، فقد حكى ابن برهان  في " الوجيز " الخلاف في هذه الحالة ، وبالغ في تصحيح العمل به مع الإبهام ، واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل هو من المخرج ، والأصل عدمه ، فيبقى على الأصل ، ويعمل به إلى أن يعلم بالقرينة أن الدليل المخصص معارض للفظ العام ، وإنما يكون معارضا عند العلم به . انتهى . 
وهو صريح في الإضراب عن المخصص ، والعمل بالعام في جميع أفراده ، وهو بعيد . 
وقد رد الهندي  هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ، ولا قائل به انتهى . 
وليس كما قال ، فقد حكى الخلاف فيه صاحب " اللباب " من الحنفية وعبارته : وقيل : إن كان المخصوص مجهولا لم يثبت به الخصوص أصلا ، بل يبقى النص عاما كما كان . كذا حكاه أبو زيد  في " التقويم " . 
وممن حكى الخلاف أبو الحسين بن القطان    . فقال في كتابه : الخطاب إذا علم خصوصه ، ولم يعلم مما يخصه كيف يعمل به ؟ ذهب بعض أصحابنا إلى إحالة هذا . وقال : إن البيان لا يتأخر ، وهذا يؤدي إلى تأخيره إن أجزناه . 
وقال بعضهم : يجوز ذلك ، ويعتقد فيه العموم إلا موضعا خص منه غير أنه إذا جاء ما يشتمل عليه العموم أمضاه ، لأنه لو كان فيه خصوص لخصه الله تعالى وبينه ، لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة .  [ ص: 359 ] ومنهم من قال : أقف في هذا ، لأني قد علمت أنه مخصوص . ولعل الحكم الذي حكم من حيز الخصوص كما لو علم في الآية نسخا ، فلا يجوز أن يجريه على الأصل ، لجواز النسخ . فكذلك التخصيص . انتهى . 
وكذلك حكاه الحنفية في كتبهم ، منهم أبو زيد الدبوسي  ، وشمس الأئمة السرخسي  ، وغيرهما ، فقالوا : إذا خص وجب الوقف فيه إلى البيان ، سواء خص بمجهول أو معلوم ، لأنه عند التخصيص يصير مجازا في البعض ، وذلك البعض مجهول فلم يبق حجة . ونقل عن بعضهم أنه إن خص بمجهول لم يثبت التخصيص ، ثم قال : والذي ثبت عندي من مذهب المتقدمين أنه باق على عمومه بعد التخصيص ، سواء خص بمجهول أو معلوم ، لكن دلالته على أفراده تبقى ظنية ، وعليه جمهور العلماء . 
وقال صاحب " اللباب " : ذهب عامة أصحابنا ، وأصحاب  الشافعي  إلى أن يبقى عاما فيما وراء التخصيص ، ويصح التعلق به ، سواء كان المخصص معلوما أو مجهولا ، ولكنه موجب للعمل لا للعلم ، بخلاف ما قبل التخصيص عندنا ، فإنه قطعي . 
وقيل : إن كان المخصص معلوما صح التعلق به ، وإلا فلا . وقال  الكرخي  ، وأبو عبد الله الجرجاني    : لا يبقى للباقي عموم ، ولا يصح التعلق به ، ولكن إذا كان معلوما يبقى موجبا للعلم والعمل ، أو مجهولا لا يوجبهما ; بل يوقف على دليل آخر . وقيل : إن كان المخصص مجهولا لم يثبت به الخصوص أصلا ، بل يبقى النص عاما كما كان . انتهى . 
وإن خص بمعين كما لو قيل : اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة  أو المستأمن  ، فهل يجوز التعليق به بعد التخصيص ؟ اختلفوا فيه على مذاهب : 
أحدها : أنه حجة في الباقي مطلقا ، وهو قول معظم الفقهاء ، واختاره  [ ص: 360 ] الآمدي  ، والرازي  ،  وابن الحاجب  ، وقال أبو الحسين بن القطان    : إنه الأصح . وقال ابن الصباغ  في " العدة " : إنه قول أصحابنا . 
وقال القفال    : لا فرق بين الاستثناء وغيره ، ولا بين المتصل بالخطاب والمنفصل عنه . قال إلكيا الطبري    : ولكنه دونه ما لم يتطرق التخصيص إليه ، فيكسبه ضربا من التجوز ، ولو رجح { نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير   } على عموم قوله : { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما    } الآية بأن التخصيص يتطرق إليها لكان الخمر والقاذورات المحرمة خارجة عنها . 
وقال أبو زيد  في " التقويم " : إنه الذي صح عنده من مذهب السلف    . قال : لكنه غير موجب للعلم قطعا ، بخلاف ما قبل التخصيص . وكذا قال السرخسي    . قال  أبو حنيفة    : خص هذا العام بالقياس فعرفنا أنه حجة  [ ص: 361 ] للعمل ، وإن لم يوجب العلم ، ونقله عبد الوهاب  في " الملخص " عن أصحابهم  والشافعي    . 
والثاني : أنه ليس بحجة ، ونقل عن  عيسى بن أبان  ،  وأبي ثور  ، وحكاه  القفال الشاشي  عن أهل العراق  ، والغزالي  عن القدرية  ، قال : ثم منهم من يقول : يبقى أقل الجمع ، لأنه المتيقن . قال : وكلام الواقفية  في العموم المخصوص أظهر لا محالة ، ومرادهم أنه يصير مجملا ، وينزل منزلة ما إذا كان المخصص مجهولا ، هكذا نقله  الشيخ أبو إسحاق  ، وإلكيا  ، قال : وحجتهم أن اللفظ موضع للاستغراق ، وإنما يخرج عنه بقرينة ، ومقدار التأثير للقرينة في اللفظ مجهول ، فلا يدل عليه فيصير مجهولا . 
قال : وهو متجه جدا ، وغاية ما يرد عليه بأمرين : 
أحدهما : أن الصحابة والتابعين علموا بما تطرق إليه التخصيص من العموم . وله أن يجيب بأنهم نقلوه من القرائن التي شاهدوها وألفوها ، وكانوا بمرأى من الرسول ، ومسمع من الوحي . 
الثاني : أن صيغة العموم ليست نصا في الاستغراق لاحتمال إرادة الخصوص ، وإجراء اللفظ على غالب المسميات من غير قرينة تخطر بالبال . نعم ، إن كان مضمون التخصيص استثناء ما لا يشذ عن الذهن عند إطلاق اللفظ ، فيتجه ما قاله  عيسى بن أبان  ، ثم قضيته أنه لا يجوز التخصيص إلا بما يجوز النسخ به بأنه إسقاط أمر اللفظ العام والممكن في الجواب عنه أن القدر الذي ظهر من القرينة أمرنا باتباعه ، ولا يقدر وراءه قرينة هي غائبة عنا فإن ذلك يلزم مثله في العموم الذي لم يتناوله تخصيص إجماعا لإمكان أنه بناه على سؤال ، وقرينة حال . ا هـ .  [ ص: 362 ] 
وقال الصيرفي    : القائل بهذا ، إن كان ممن ينكر العموم ، فقد أثبتناه ، وإن كان ممن يثبته فمن نفس قوله يسقط قوله هذا ، لأنه توقف عما بقي لأن البعض خص ، وما لم يخص داخل ، ولم يمتنع فيما جاء عاما لإمكان خصوصه ، فلا يحكم به ، حتى يعلم أنه لم يخص . 
وقال إمام الحرمين  ، وابن القشيري    : ذهب كثير من الفقهاء الشافعية ، والمالكية ، والحنفية والجبائي  وابنه إلى أن الصيغة الموضوعة إذا خصت صارت مجملة ، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات ، وإليه مال  عيسى بن أبان    . 
وقال المقترح    : هذا المذهب يعتبر على وجهين : 
أحدهما : أن اللفظ موضوع للكل بما هو كل ، ويندرج تحته كل واحد ، فإذا تبين بالتخصيص أن الكل ليس مرادا بقي اللفظ مجملا ، لا أن يراد به البعض دون البعض وليس بعضه أولى من بعض ، فكان مجملا . 
والثاني : أنه متناول لكل واحد بصفة الظهور ، فإذا ورد التخصيص ، تبين أن الشمول ليس مرادا ، فيبقى اللفظ مجملا ، فيكتسب الإجمال . 
والثالث : إن خص بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما بقي ، وإن خص بمنفصل فلا ; بل يصير مجملا . وحكاه  الأستاذ أبو منصور  عن الكرخي  ،  ومحمد بن شجاع البلخي  ، وكذا حكاه صاحب " المعتمد " عن  الكرخي    . 
وقال  أبو بكر الرازي  في أصوله : كان شيخنا  أبو الحسن الكرخي  يقول في العام : إذا ثبت خصوصه  سقط الاستدلال باللفظ ، وصار حكمه موقوفا  [ ص: 363 ] على دلالة أخرى من غيره ، فيكون بمنزلة اللفظ ، وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ ، فيقول : إن الاستثناء غير مانع من بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى ، لأن الاستثناء لا يجعل اللفظ مجازا فكان يقول : هذا بديهي ، ولا أقدر أعزيه إلى أصحابنا ، وإليه ذهب  محمد بن شجاع    . 
والرابع : أن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعليقه بظاهره ، جاز التعليق به كما في قوله : { فاقتلوا المشركين    } ، لأن قيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة  ، لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين ، وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام ، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما    } لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز ، وكون المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم ، وهو القطع بعموم اسم السارق ، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ ، وهو قول أبي عبد الله  تلميذ الكرخي    . 
والخامس : إن كان لا يتوقف على البيان كالمشركين فهو حجة ، وإلا فلا ، كأقيموا الصلاة ، فيتوقف العمل على بيان التخصيص ، وهو إخراج الحائض ، وهذا قول عبد الجبار    . 
والسادس : أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع ، لأنه المتعين ، ولا يجوز فيما زاد عليه . حكاه القاضي  ، والغزالي  ، وابن القشيري  ، وقال : إنه تحكم وقال الصفي الهندي    : لعله قول من لا يجوز التخصيص إليه ، وحكي في " المنخول " عن  أبي هاشم  أنه يتمسك به في واحد ، ولا يتمسك به جمعا .  [ ص: 364 ] 
والسابع : الوقف ، فلا نقول : خاص أو عام إلا بدليل . حكاه أبو الحسين بن القطان  ، وجعله مغايرا لقول  عيسى بن أبان  ، ونقل عنه أن الباقي على الخصوص . تنبيهات 
الأول : محل قولنا يجوز التمسك به إنما هو في العام المخصوص ، أما الذي أريد به الخصوص فلا يصح الاحتجاج بظاهره . قاله  الشيخ أبو حامد الإسفراييني  في كتاب البيع من " تعليقه " وفيه ما يدل على أن  أبا علي بن أبي هريرة  قاله أيضا . 
الثاني : حيث قلنا : إنه مجمل ، قال  الشيخ أبو حامد    : واختلف أصحابنا : هل هو مجمل من حيث اللفظ والمعنى ، لأنه لا يعقل المراد من ظاهره إلا بقرينة ، أو مجمل من حيث المعنى دون اللفظ ؟ وجهان : قال : والأكثرون على الثاني ، لأن افتقار المجمل إلى القرينة من جهة التعريف بما هو مراد به كقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده    } وافتقار العام الذي أريد به الخصوص إلى القرينة من جهة أن يعرف بها ما ليس بمراد به . 
الثالث : أن الخلاف هنا مبني على التي قبلها ، فمن قال : إنه مجاز  [ ص: 365 ] لا يجوز التعلق به . ومن قال : إنه حقيقة جوزه ، وأما من قال : إنه مجاز ، ثم أجاز التعلق به يعني  كالقاضي  صار الخلاف معه لفظيا . كذا أشار إليه  الشيخ أبو حامد  وغيره . 
وذكر صاحب الميزان من الحنفية أن هذه المسألة مفرعة على أن دلالة العام على أفراده قطعية أو ظنية ؟ فمن قال : قطعية جعل الذي خص كالذي لم يخص وإلا فلا . وفيه نظر . 
وقال غيره : ينبني على أن اللفظ العام إذا ورد : هل يتناول الجنس أو لا ، وتندرج الآحاد تحته ضرورة اشتماله عليه ، أو يتناول الآحاد واحدا واحدا ، حتى يستغرق الجنس ؟ فالمعتزلة  قالوا بالأول ، وهو عند الإطلاق يظهر عمومه . فإذا تخصص تبين أنه لم يرد العموم ، وعند إرادة عدم العموم ليس بعض أولى من بعض ، فيكون مجملا . 
				
						
						
