صفحة جزء
واعلم أن مصالح الآخرة لا تتم إلا بمعظم مصالح الدنيا كالمآكل والمشارب والمناكح وكثير من المنافع ، فلذلك انقسمت الشريعة إلى العبادات المحضة في طلب المصالح الأخروية ، وإلى العبادات المتعلقة بمصالح الدنيا والآخرة ، وإلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالزكاة ، وإلى ما يغلب عليه مصالح الأخرى كالصلاة ، وكذلك انقسمت المعاملات إلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا كالبياعات والإجارات ، وإلى ما يغلب عليه مصالح الآخرة كالإجارة بالطاعات على الطاعات ، وإلى ما يجتمع فيه المصلحتان .

أما مصالح الأخرى فلباذليه ، وأما المصالح الدنيا فلآخذيه وقابليه ، وإلى ما يتخير باذلوه بين أن يجعلوه لدنياهم أو أخراهم ، أو أن يشركوا فيه بين دنياهم وأخراهم .

وأما العبادات فأنواع . أحدها : المعارف المختصة بالله - تعالى - ، وكذلك الأحوال المبنية عليها .

النوع الثاني : الأقوال المختصة بالله - تعالى - كالتسبيح والتقديس والتحميد والتهليل والتكبير وسائر المدائح التي بها يمدح الإله .

النوع الثالث : الأفعال المختصة بالله كالحج في العمرة والركوع والسجود والصيام والطواف المجرد والاعتكاف .

النوع الرابع : ما يغلب عليه حق الله وفيه حق للعباد كالصلوات المفروضات والمندوبات .

[ ص: 78 ] النوع الخامس : ما يشتمل على الحقين ويغلب عليه حق العباد كالزكاة والكفارات وستر العورات ، وقد يجتمع الحقان في الدماء ، والأبضاع والأعراض والأنساب .

وأما الأموال فحق الله - تعالى - فيها تابع لحقوق العباد بدليل أنها تباح بإباحتهم ويتصرف فيها بإذنهم ، وفي الجهاد الحقان جميعا .

وأما المعاملات فأنواع . أحدها : ما وضع لإفادة المصالح العاجلة كالبيوع والإجارات وتدخله المصالح الآجلة بالمباحات والمسامحات .

النوع الثاني : ما يكون مصلحة عوضية آجلة كالاستئجار للحج والعمرة بتعليم القرآن ، وكالاستئجار للأذان بالحج أو العمرة أو بتعليم القرآن وكالاستئجار بالحج أو بالعمرة على الصيام ، وكالاستئجار على بناء المساجد بالحج أو الأذان أو تعليم القرآن .

النوع الثالث : ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والثانية آجلة كالقرض ، مصلحته للمقترض عاجلة وللمقرض آجلة إذا قصد به وجه الله ، وكذلك ضمان إحضار ما يجب إحضاره مصلحته العاجلة للمضمون ، والآجلة للضامن إذا قصد به القربة إلى الله - تعالى - .

النوع الرابع : ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والأخرى يتخير باذلها بين تعجيلها وتأجيلها ، أو ما تأجل بعضها دون بعض كضمان الديون مصلحته العاجلة للمضمون له .

وأما الآجلة ، فإن ضمن ذلك بعوض كان كالقرض ، وإن ضمنه مجانا أثيب عليه إن قصد به وجه الله .

وكذلك إن شرط الرجوع بالبعض دون البعض ، وكذلك الحكم في قبول الودائع والأمانات والوكالات مصلحتها العاجلة للمالك والموكل والمودع وفي الآجل للقابل إن قصد به وجه الله .

[ ص: 79 ] النوع الخامس : ما تكون مصلحته الآجلة لباذليه ، والعاجلة لقابليه كالأوقاف والهبات والعواري والوصايا والهدايا .

ومن ذلك المسامحة ببعض الأعواض ، مصلحتها العاجلة للمسامح القابل ، والآجلة للمسامح الباذل .

وأما الولايات ، فإن كانت في إحدى الصلوات المكتوبات فمصلحتها الآجلة مشتركة بين الأئمة والمقتدين ، إذ لا تتم إلا بالفريقين ، وذلك واجب في الجمعات مؤكدة في غيرها من الصلوات .

وأما الصلاة على الأموات ففائدتها للمصلي والمصلى عليه آجلة ، وإن كانت الولاية عليه في غير الصلاة فإن كانت في الحضانة فمصلحتها للمحضون في العاجل والحاضن في الآجل .

وإن كانت في ولاية النكاح فمصلحتها العاجلة لها ، ويثاب عليها الولي إذا قصد القربة في الآجل ، وكذلك المولى عليه إذا كان تائقا إلى النكاح قاصدا للعفاف فإن النكاح للتائق أفضل من التنفل في العبادات ، والولي معين عليه وثواب الإعانة على قدر فضل المعان عليه ، وإن كانت الولاية في الحجر فهو ضربان .

أحدهما : أن يكون الحجر لمصلحة المحجور عليه كالحجر على السفهاء والصبيان والمجانين فمصلحة الحاجر فيه آجلة ومصلحة المحجور عليه عاجلة .

الضرب الثاني : أن يكون الحجر لمصلحة غير المحجور عليه كحجر الرق والفلس والمرض . أما حجر الرق فمصلحته العاجلة للسادات ، والعبد إذا أدى حق الله ، وحق مواليه كان له أجره مرتين .

وأما حجر الفلس فمصلحته العاجلة للغرماء ومصلحته الآجلة للحاكم ، وفيه مصلحة للمحجور عليه من جهة براءة ذمته .

وأما الشهادات ، فإن كانت بحقوق الله الخاصة به فالقيام بها من المصالح [ ص: 80 ] الآجلة ، وإن كانت بحقوق العباد كانت مصالحها العاجلة للمشهود له والآجلة للشاهد إذا قصد بذلك وجه الله ، وإعانة أخيه المؤمن على حفظ حقه . والحكم كالشهادة في ذلك ، وكذلك تصرف الإمام إن تصرف في حقوق الله المحضة ، كانت مصالح تصرفه آجلة ، وإن تصرف في حقوق العباد كانت مصالح العباد عاجلة ومصالح الإمام آجلة ، وإن تصرف لإقامة الحقين حصل المحكوم له على الفوائد العاجلة وحصل الإمام على الأجرين .

وأما الالتقاط ، فمصلحته العاجلة للقيط ومصلحته الآجلة للملتقط .

وأما اللقطة ، فإن قصد الملتقط الحفظ والتعريف كانت المصلحة للمالك في العاجل وللملتقط في الآجل ، وإن التقط للتعريف والتمليك كانت المصلحة العاجلة للمالك وللملتقط مع ما يرجى للملتقط من الأجر في الآجل .

وإن كانت الولاية على القسمة فإن قسمها مجانا كانت الفائدة العاجلة للمقتسمين والآجلة للقاسمين ، لما فيها من إعانة المقتسمين ، وإن كانت بعوض لا مسامحة فيه كانت عاجلة للقاسمين والمقتسمين ، وإن سامح القاسم في الأجرة كان له أجر المسامحين .

التالي السابق


الخدمات العلمية