السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

صفحة جزء
4781 باب في الخلق كيف يخلق، والشقاوة والسعادة

وقال النووي : (باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته) .

(حديث الباب)

وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 190 - 192، ج 16 المطبعة المصرية

(عن زيد بن وهب، عن عبد الله، قال: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، -وهو الصادق المصدوق-: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه: أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة: مثل ذلك. ثم يكون في [ ص: 373 ] ذلك مضغة: مثل ذلك. ثم يرسل الملك، فينفخ فيه الروح. ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها») .


(الشرح)

(عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله؛ عليه) وآله (وسلم، وهو الصادق) المخبر بالقول الحق (المصدوق) : الذي صدقه الله وعده.

وقيل: الصادق في قوله، المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم.

والجملة اعتراضية لا حالية؛ ليعم الأحوال كلها، وأن يكون من عادته ودأبه ذلك، فما أحسن موقعه هنا!!

(إن أحدكم يجمع خلقه) : بكسر الهمزة، على حكاية لفظه، صلى الله عليه وآله وسلم. قاله النووي .

وقال أبو البقاء: لا يجوز إلا الفتح؛ لأنه مفعول «حدثنا» فلو [ ص: 374 ] كسر لكان منقطعا عن «حدثنا» لكن تعقبه الخولي بأن الرواية جاءت بالفتح والكسر، فلا معنى للرد. قال: ولو لم تجئ به الرواية لما امتنع، جوازا على طريق الرواية بالمعنى. كذا في الفتح.

قال القسطلاني : وهذا مبني على حذف «قال» وعلى تقدير حذفها فهي مقدرة؛ إذ لا يتم المعنى بدونها. انتهى.

«يجمع»: بضم الياء، وفتح الميم. أي: يخزن. «خلقه» أي: ما يخلق منه أحدكم، (في بطن أمه) قال في النهاية: ويجوز أن يريد بالجمع: مكث النطفة في الرحم. أي: تمكث النطفة فيه (أربعين يوما) تتخمر فيها، حتى تتهيأ للخلق. وقال: المراد: أن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة، مبثوثا متفرقا، فيجمعه في محل الولادة من الرحم.

وفي رواية للبخاري : «أو أربعين ليلة» بالشك.

[ ص: 375 ] وأخرج « ابن أبي حاتم » في تفسيره عن « ابن مسعود »: أن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرا طارت في جسد المرأة، تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين يوما، ثم تنزل دما في الرحم.

قال بعض أهل العلم: الصحابة أعلم الناس بتفسير ما سمعوه، وأحقهم بتأويله، وأولاهم بالصدق، وأكثرهم احتياطا. فليس لمن بعدهم أن يرد عليهم. انتهى.

وفيه: أن ابتداء جمعه: من ابتداء الأربعين. وعند أبي عوانة: «ثنتان وأربعون» وعند الفريابي، عن عمرو بن الحارث : «خمسة وأربعين ليلة».

(ثم يكون في ذلك علقة) أي: دما غليظا جامدا، تحول من النطفة البيضاء إلى العلقة الحمراء؛ وسمي بذلك للرطوبة التي فيه، وتعلقه بما مر به. (مثل ذلك الزمان) وهو الأربعون.

(ثم يكون في ذلك مضغة) بضم الميم: قطعة لحم، قدر ما يمضغ (مثل ذلك) الزمان. وهو الأربعون.

[ ص: 376 ] (ثم) في الطور الرابع -حين يتكامل بنيانه، وتتشكل أعضاؤه- (يرسل الله الملك) الموكل بالرحم.

وعند الفريابي، من أبي الزبير : «أتى ملك الأرحام».

ولفظ البخاري : «يبعث الله ملكا»

ولأبي ذر : «يبعث ملك لتصويره، وتخليقه، وكتابة ما يتعلق به».

(فينفخ فيه الروح) (كما أمر بذلك».

وفي حديث علي، عند ابن أبي حاتم: «إذا تمت النطفة أربعة أشهر: بعث الله إليها ملكا، فينفخ فيه الروح».

(ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه) بالباء في أوله: على البدل من أربع.

(وأجله وعمله، وشقي أو سعيد) مرفوع: خبر مبتدأ محذوف.

أي: وهو «شقي أو سعيد».

[ ص: 377 ] قال النووي : ظاهره أن إرساله يكون بعد مائة وعشرين يوما.

وفي رواية أخرى: « يدخل الملك على النطفة، بعدما تستقر في الرحم: بأربعين -أو خمسة وأربعين- ليلة، فيقول: يا رب! أشقي أم سعيد؟ ».

وفي الرواية الثالثة: « إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة: بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ».

وفي رواية « حذيفة بن أسيد »: « أن النطفة تقع في الرحم: أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك ».

وفي رواية: « أن ملكا موكلا بالرحم؛ إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة ».

[ ص: 378 ] وفي رواية أنس : « أن الله قد وكل بالرحم ملكا، فيقول: أي رب! نطفة. أي رب! علقة. أي رب! مضغة ».

قال أهل العلم: طريق الجمع بين هذه الروايات: أن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة. وأنه يقول: يا رب! هذه علقة. هذه مضغة. في أوقاتها، فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه، بأمر الله تعالى. وهو أعلم سبحانه. ولكلام الملك وتصرفه أوقات.

أحدها: حين يخلقها الله تعالى نطفة، ثم ينقلها علقة، وهو أول علم الملك بأنه ولد؛ لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا. وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذ يكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته أو سعادته.

ثم للملك فيه تصرف آخر، في وقت آخر، وهو تصويره، وخلق سمعه وبصره، وجلده ولحمه وعظمه، وكونه ذكرا أم أنثى. وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة. وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه؛ لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته. وأما قوله في إحدى الروايات: فإذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون [ ص: 379 ] ليلة: بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها. ثم يقول: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب! أجله. فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك. وذكر رزقه. فقال عياض وغيره: ليس هو على ظاهره، ولا يصح حمله على ظاهره. بل المراد بتصويرها، وخلق سمعها إلى آخره أنه يكتب ذلك، ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة، وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، كما قال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين5 ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما .

ثم يكون للملك فيه تصوير آخر. وهو وقت نفخ الروح، عقب الأربعين الثالثة، حين يكمل له أربعة أشهر. واتفق العلماء: على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر.

ووقع في رواية البخاري : « أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك: [ ص: 380 ] فيؤذن بأربع كلمات: فيكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه ».

فقوله: «ثم يبعث» بحرف «ثم»: يقتضي تأخير كتب الملك هذه الأمور إلى ما بعد الأربعين الثالثة. والأحاديث الباقية تقتضي الكتب بعد الأربعين الأولى.

وجوابه: أن قوله «ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن فيكتب»: معطوف على قوله: «يجمع في بطن أمه» ومتعلق به لا بما قبله، وهو قوله: «ثم يكون مضغة مثله» ويكون قوله: «علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله» معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه. وذلك جائز، موجود في القرآن، والحديث الصحيح، وغيره من كلام العرب.

قال عياض وغيره: المراد بإرسال الملك في هذه الأشياء: أمره بها، وبالتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم، وأنه يقول: يا رب! نطفة. يا رب! علقة. قال: وقوله في حديث أنس : « وإذا أراد الله أن يقضي خلقا؛ قال: يا رب! أذكر أم [ ص: 381 ] أنثى؟ شقي أم سعيد؟ » لا يخالف ما قدمناه، ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة بل ابتداء للكلام، وإخبار عن حالة أخرى. فأخبر أولا بحال الملك مع النطفة، ثم أخبر أن الله تعالى إذا أراد إظهار خلق النطفة علقة كان كذا وكذا، ثم المراد بجميع ما ذكر -من الرزق، والأجل، والشقاوة، والسعادة، والعمل، والذكورة والأنوثة- أنه يظهر ذلك للملك، ويأمره بإنفاذه وكتابته. وإلا، فقضاء الله تعالى سابق على ذلك، وعلمه وإرادته لكل ذلك موجود في الأزل. والله أعلم.

قال القسطلاني : أي: يؤمر الملك بكتابة أربعة أشياء، من أحوال الجنين (برزقه) أي: بغذائه: حلالا أو حراما، قليلا أو كثيرا، وكل ما ساقه الله إليه، فيتناول العلم ونحوه.

(وأجله) أي. طويل أو قصير.

(وشقي) : باعتبار ما يختم له، (أو سعيد) كذلك.

قال شارح المشكاة: كان حق الظاهر أن يقول: «تكتب سعادته وشقاوته» فعدل عن ذلك؛ لأن الكلام مسوق إليهما، والتفصيل وارد عليهما.

(فوالذي لا إله غيره! إن أحدكم ليعمل بعمل) الباء زائدة للتأكيد.

[ ص: 382 ] أي: يعمل عمل (أهل الجنة) أو ضمن «يعمل» معنى: «يتلبس» أي: يتلبس بالطاعات (حتى ما يكون) نصب بحتى. وما نافية، غير مانعة لها من العمل.

وقيل: «حتى» ابتدائية، فيكون: رفع.

(بينه وبينها إلا ذراع) وفي البخاري : «باع» بدل «ذراع».

«والباع»: قدر مد اليدين.

قال النووي ": المراد بالذراع: التمثيل؛ للقرب من موته، ودخوله عقبه، وأن تلك الدار ما بقي بينه وبين أن يصلها إلا كمن بقي بينه وبين موضع من الأرض ذراع. انتهى.

(فيسبق عليه الكتاب) أي: مكتوب الله. وهو القضاء الأزلي. وضمن «يسبق» معنى: «يغلب» أي: يسبق المكتوب واقعا عليه (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) معناه: أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة، والمكتوب في اقتضاء الشقاوة، فيتحقق مقتضى المكتوب. فعبر عن ذلك بالسبق؛ لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق.

[ ص: 383 ] (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .

قال القسطلاني : والتعبير «بالذراع» تمثيل بقرب حاله من الموت، فيحال بينه وبين المقصود بمقدار ذراع أو باع من المسافة. وضابط ذلك الحسي: «الغرغرة» التي جعلت علامة لعدم قبول التوبة.

وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صرفا، وأهل الشر صرفا إلى الموت، لا الذين خلطوا، وماتوا على الإسلام؛ لأنه لم يقصد تعميم أحوال المكلفين، بل أورده لبيان أن الاعتبار بالخاتمة.

ختم الله لنا بالحسنى والصالحات.

وعند أحمد، من حديث أبي هريرة : « إن الرجل ليعمل سبعين سنة بعمل أهل النار، ثم يختم له بعمل أهل الجنة ».

وعنده عن عائشة مرفوعا: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وهو مكتوب في الكتاب الأول من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحول، فعمل عمل أهل النار، فمات، فدخلها» الحديث.

وفيه: أن في تقدير الأعمال: ما هو سابق ولاحق. فالسابق ما في علم الله. واللاحق: ما يقدر على الجنين في بطن أمه، كما في هذا الحديث. وهذا هو الذي يقبل النسخ.

[ ص: 384 ] قال النووي : المراد بهذا الحديث أن هذا قد يقع في نادر من الناس، لا أنه غالب فيهم، ثم إنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته: انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور، ونهاية القلة، وهو نحو قوله تعالى: «إن رحمتي سبقت غضبي». «وغلبت غضبي».

ويدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أو معصية، لكن يختلفان في التخليد وعدمه، فالكافر يخلد في النار، والعاصي الذي مات موحدا لا يخلد فيها.

قال: وفي هذا الحديث تصريح بإثبات القدر، وأن التوبة تهدم الذنوب قبلها، وأن من مات على شيء حكم له به من خير أو شر، إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية