السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس ، صلح للطائفتين دينهم ودنياهم ، وإلا اضطربت الأمور عليهم .

وملاك ذلك كله حسن النية للرعية ، وإخلاص الدين كله لله ، والتوكل عليه ، فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة ، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا : { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن هاتين الكلمتين قد قيل : إنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء .

وقد روي { أن النبي ، كان مرة في بعض مغازيه ، فقال : يا مالك يوم الدين ، إياك نعبد ، وإياك نستعين فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها }

وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله : { فاعبده وتوكل عليه } وقوله تعالى [ ص: 175 ] { عليه توكلت وإليه أنيب } { وكان النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ذبح أضحيته - يقول : اللهم منك ولك }

وأعظم عون لولي الأمر خاصة ولغيره عامة ثلاثة أمور أحدها : الإخلاص لله ، والتوكل عليه بالدعاء وغيره ، وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن .

والثاني : الإحسان إلى الخلق ، بالنفع والمال الذي هو الزكاة .

الثالث : الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب .

ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر ، كقوله تعالى في موضعين : { واستعينوا بالصبر والصلاة } وكقوله تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار ، وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } .

: وقوله تعالى { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } .

وكذلك في سورة ق : { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } .

[ ص: 176 ] وقال تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } ، وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدا .

فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر ، يصلح حال الراعي والرعية ، إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة ، يدخل في الصلاة من ذكر الله - تعالى دعاؤه ، وتلاوة كتابه ، وإخلاص الدين له ، والتوكل عليه .

وفي الزكاة بالإحسان إلى الخلق بالمال والنفع ، ومن نصر المظلوم ، وإغاثة الملهوف ، وقضاء حاجة المحتاج .

ففي الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { كل معروف صدقة } ، فيدخل فيه كل إحسان ، ولو ببسط الوجه والكلمة الطيبة .

ففي الصحيحين : عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ، ليس بينه وبينه حاجب ، ولا ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه ، فينظر أمامه ، فتستقبله النار ، [ ص: 177 ] فمن استطاع منكم أن يتقي النار ، ولو بشق تمرة فليفعل ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة } .

وفي السنن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي } وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إن أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن } .

وروي عنه { صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم سلمة [ ص: 178 ] يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة }

وفي الصبر احتمال الأذى ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس ، ومخالفة الهوى ، وترك الأشر والبطر ، كما قال تعالى : { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم [ ص: 179 ] نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير } وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وقال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } .

وقال تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } .

وقال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله ، إنه لا يحب الظالمين } .

وقال الحسن البصري رحمة الله عليه : " إذا كان يوم القيامة ، نادى مناد من بطنان العرش : ألا ليقم من وجب أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح " .

فليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه فقد قال الله تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن } .

وقال تعالى [ ص: 180 ] للصحابة : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم }

وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ، ولو كرهه من كرهه ، لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه .

ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان العنف في شيء إلا شانه } .

وقال صلى الله عليه وسلم { إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف }

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول : " والله لأريدن أن أخرج لهم المرة من الحق ، فأخاف أن ينفروا عنها ، فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا ، فأخرجها معها ، فإذا نفروا لهذه ، سكنوا لهذه " .

وهكذا { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة ، لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول . وسأله مرة بعض أقاربه ، أن يوليه على الصدقات ، ويرزقه منها ، فقال : إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد [ ص: 181 ] فمنعهم إياها وعوضهم من الفيء . }

{ وتحاكم إليه علي ، وزيد ، وجعفر ، في ابنة حمزة ، فلم يقض بها لواحد منهم ، ولكن قضى بها لخالتها ، ثم إنه طيب قلب كل واحد منهم بكلمة حسنة ، فقال لعلي : أنت مني وأنا منك . وقال لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي . وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا } .

فهكذا ينبغي لولي الأمر في قسمه وحكمه ، فإن الناس دائما يسألون ولي الأمر ما لا يصلح بذله من الولايات ، والأموال والمنافع والجود ، والشفاعة في الحدود وغير ذلك ، فيعوضهم من جهة أخرى ، إن أمكن ، أو يردهم بميسور من القول ما لم يحتج إلى الإغلاظ ، فإن رد السائل يؤلمه ، خصوصا من يحتاج إلى تأليفه ، وقد قال [ ص: 182 ] الله تعالى : { وأما السائل فلا تنهر } .

وقال تعالى : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا } إلى قوله : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } .

وإذا حكم على شخص فإنه قد يتأذى ، فإذا طيب نفسه مما يصلح من القول والعمل كان ذلك تمام السياسة ، وهو نظير ما يعطيه الطبيب للمريض ، من الطيب الذي يسوغ الدواء الكريه ، وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام لما أرسله إلى فرعون : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } .

{ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ، وأبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما - لما بعثهما إلى اليمن - يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا } .

{ وبال مرة أعرابي في المسجد فقام أصحابه إليه [ ص: 183 ] فقال : لا تزرموه . أي لا تقطعوا عليه بوله ، ثم أمر بدلو من ماء فصب عليه } ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين } والحديثان في الصحيحين

وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته ، فإن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها ، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له من النية الصالحة ، ألا ترى أن الأكل والشرب واللباس واجب على الإنسان ؟ حتى لو اضطر إلى الميتة وجب عليه عند عامة العلماء ، فإن لم يأكل حتى مات دخل النار ; لأن العبادات لا تؤدى إلا بهذا وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولهذا كانت نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرهما .

ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تصدقوا . فقال رجل : يا رسول الله عندي دينار . فقال تصدق به على نفسك . [ ص: 184 ] قال : عندي آخر . قال : تصدق به على زوجتك قال : عندي آخر قال تصدق به على ولدك . قال عندي آخر . قال تصدق به على خادمك . قال عندي آخر قال : أنت أبصر به } .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك . أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك } وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : { قال رسول الله [ ص: 185 ] صلى الله عليه وسلم يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك ، وأن تمسكه شر لك ، ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول ، واليد العليا خير من اليد السفلى } وهذا تأويل قوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون . قل العفو } أي الفضل .

وذلك لأن نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين بخلاف النفقة في الغزو والمساكين ، فإنه في الأصل إما فرض على الكفاية ، وإما مستحب ، وإن كان قد يصير متعينا إذا لم يقم غيره به ، فإن إطعام الجائع واجب .

ولهذا جاء في الحديث .

{ لو صدق السائل لما أفلح من رده } ذكره الإمام أحمد وذكر أنه إذا علم صدقه وجب إطعامه وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه من أنواع العلم ، والحكمة ، وفيه أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام { : حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه ، وساعة يخلو فيها بلذاته [ ص: 186 ] فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات } فبين أنه لا بد من اللذات المباحة الجميلة فإنها تعين على تلك الأمور .

ولهذا ذكر الفقهاء أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة باستعمال ما يجمله ويزينه ، وتجنب ما يدنسه ويشينه وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل ; لأستعين به على الحق ، والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق ، فإنهم بذلك يجتلبون ما ينفعهم ، كما خلق الغضب ليدفعوا به ما يضرهم ، وحرم من الشهوات ما يضر تناوله ، وذم من اقتصر عليها فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق ، فهذا من الأعمال الصالحة ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال : في بضع أحدكم صدقة . قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أما يكون عليه وزر ؟ قالوا . بلى ، فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال } .

وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : إنك لن تنفق [ ص: 187 ] نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك } الآثار في هذا كثيرة ، فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله ، وكانت المباحات في صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته ، والمنافق لفساد قلبه ونيته - يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء فإن من الصحيح أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } .

[ ص: 188 ] وكما أن العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، فقد شرع أيضا كل ما يعين على ذلك فينبغي تيسير طريق الخير والطاعة ، والإعانة عليه ، والترغيب فيه بكل ممكن ، مثل أن يبذل لولده ، وأهله ، أو رعيته ما يرغبهم في العمل الصالح ، من مال أو ثناء أو غيره ، ولهذا شرعت المسابقة بالخيل ، والإبل ، والمناضلة بالسهام ، وأخذ الجعل عليها لما فيه من الترغيب في إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد في سبيل الله ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يسابق بين الخيل ، هو وخلفاؤه الراشدون ، ويخرجون الأسباق من بيت المال ، وكذلك عطاء المؤلفة قلوبهم ، فقد روي : { أن الرجل كان يسلم أول النهار رغبة في الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس } .

التالي السابق


الخدمات العلمية