إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وهذا القصد واجب على كل عالم تصدى لدعوة الخلق إلى الله عز وجل وهو أن يراعي من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه .

والاعتماد في مثل هذه الأمور على النية فإنها أعمال في أنفسها تكتسب الأوصاف من المقصود فالتزين على هذا القصد محبوب وترك الشعث في اللحية إظهارا للزهد وقلة المبالاة بالنفس محذور وتركه شغلا بما هو أهم منه محبوب .

وهذه أحوال باطنة بين العبد وبين الله عز وجل .

والناقد بصير والتلبيس غير رائج عليه بحال وكم من جاهل يتعاطى هذه الأمور التفاتا إلى الخلق وهو يلبس على نفسه وعلى غيره ويزعم أن قصده الخير فترى جماعة من العلماء يلبسون الثياب الفاخرة ويزعمون أن قصدهم إرغام المبتدعة والمجادلين والتقرب إلى الله تعالى به .

وهذا أمر ينكشف يوم تبلى السرائر ويوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور فعند ذلك تتميز السبيكة الخالصة من البهرجة فنعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر .


ثم قال المصنف (وهذا القصد واجب على كل عالم) من علماء الآخرة (تصدى لدعوة الخلق إلى الله عز وجل) ، أي : قام يدعوهم إلى الله بإرشاده وتسليكه وتهذيبه لنفوسهم وفطمها عن شهواتها الخسيسة ، وإنما قيدت العالم بكونه من علماء الآخرة ؛ لأن علماء الدنيا الذين بصدد تحصيل الحطام يعلمون الناس العلوم الظاهرة ليسوا في مقام الدعوة والإرشاد ، فإن نفوسهم قد جبلت على الشهوات المذمومة ورسخت فيهم أوصاف الكبر والحقد والغل فهم ومن يتبعهم في الظاهر على شفا جرف (وهو أن يراعي من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه) فمن ذلك الاقتصاد في الملابس والمطاعم وسائر الأفعال ويدخل في هذا أن لا يقضي بنفسه حوائج السوق من خبز عجين وشراء لحم وغيره مما ينسب الإنسان في مثله إلى دناءة وقلة مروءة مع أن هذا وأمثاله كان من سيرة السلف الصالحين ، ولكن الآن مما يوجب نفرة الناس عنه وينسب إلى بخل ودناءة فينبغي تركه ليسلم من ألسنة الناس ، وهذا ظاهر في زماننا ولا ينبئك مثل خبير (والاعتماد في مثل هذه الأمور على النية) ، فإن لكل امرئ ما نوى (فإنها أعمال في أنفسها تكتسب الأوصاف من المقصود فالتزين) للناس (على هذا القصد) الحسن (محبوب) شرعا (وترك الشعث في اللحية) بعدم تسريحها (إظهارا للزهد) والتقشف (وقلة المبالاة بالنفس) بعدم مراعاة أحوالها (محذور) ، فإنه إنما ترك ذلك لأجل أن يقال : إنه على قدم السلف الصالح ويرى من نفسه ذلك (و) أما (تركه شغلا بما هو أهم منه) من التوجه لتطهير الباطن ، فإنه (محبوب) ومن ذلك قيل لداود الطائي لم لا تسرح لحيتك قال : إني إذا لفارغ أشار بذلك إلى أنه مشغول فيما هو أهم ، وقال بشر : لو دخل علي داخل ففسحت لأجله لظننت أني مشرك وحاصل القول أن هؤلاء السادة كانوا مشغولين بتطهير البواطن عن الرذائل متطلعين إلى ما يقربهم إلى الله تعالى ولم يكونوا مأمورين بدعوة الخلق إلى الله تعالى ولذا كانوا يخافون في تزيين الظواهر من الوقوع في الشرك الخفي والرياء وأما [ ص: 398 ] المقام المحمدي فمقتضاه ما ذكره المصنف له وجه إلى الحق ووجه إلى الخلق فبالوجه الذي إلى الخلق يلزمه مراعاة ما يناسب مقام أهل الظاهر بأن يكون مكملا حسن الأوصاف والشمائل لئلا تنفر عنه القلوب وتنبو عنه العيون وبالوجه الذي إلى الحق ، فإنه لا يسعه فيه من مراعاة أحوال الظاهر لاشتغاله بما هو أهم ، وهذا هو الحق والله أعلم (وهذه) وأمثالها (أحوال باطنة بين العبد وبين الله عز وجل) لا يطلع عليها أحد سواه (والناقد بصير) لا يشذ عن عمله شيء (والتلبيس) والنفاق (غير رائج عليه بحال) من الأحوال (وكم من جاهل يتعاطى هذه الأمور التفاتا إلى الخلق) وإظهارا لهم (وهو يلبس على نفسه) بالتسويلات (على غيره) بالإرهاصات (ويزعم أن قصده الخير) وأنه يتشبه بذلك بالسلف وباطنه مع ذلك مغمور بداء الجهل والشيطان مستول على قلبه (فترى جماعة من العلماء يلبسون الثياب الفاخرة ) ويطيلون أكمامها وذيولها ويكبرون العمائم ويركبون على المراكب الفارهة ، وفي منازلهم الحشم والغلمان (ويزعمون أن قصدهم) بذلك (إرغام المبتدعة و) إدحاض حجة (المجادلين) من مخالفي مذهبهم لئلا يحتقروهم (والتقرب إلى الله تعالى به) باعتبار أنه تعظيم للعلم (و) لعمري (هذا) من جملة تسويلات الشيطان عليهم حيث استولى عليهم بالكلية فأخرجهم عن دائرة المعرفة إلى مهاوي الجهل وأراهم القبيح حسنا ، وهو أمر مستور عن العيون محجوب عن الإحساس لا (ينكشف) إلا (يوم تبلى السرائر) وتمتحن الضمائر (ويوم يبعثر في القبور) ، أي : يدحرج ما فيها من الأموات (ويحصل ما في الصدور) من النيات (فعند ذلك تتميز السبيكة الخالصة من البهرج) المغشوش (فنعوذ بالله من الخزي) والفضيحة (يوم العرض الأكبر) على الله عز وجل .

التالي السابق


الخدمات العلمية