إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا بأس أن يستعيذ في التشهد بالكلمات الخمس المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب ، القبر ، ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين .


(ولا بأس أن يستعيذ في تشهده بالكلمات الخمس المأثورة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم) ، ولفظ القوت : ولا يدع أن يستعيذ في تشهده بالكلمات الخمس (فيقول نعوذ بك) هذا إذا كان إماما ، وأورده صاحب القوت بالإفراد ، ونصه : اللهم إني أعوذ بك (من عذاب جهنم ، و) أعوذ بك من (عذاب القبر ، ونعوذ بك) .

وفي القوت : وأعوذ بك (من فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا) ، ولفظ القوت : فاقبضني (إليك غير مفتونين) ، فقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمر به ، وقال في موضع آخر من هذا الباب : واستحب أن يقول في تشهده : أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه ، وما لم أعلم ، وأسألك مما سألك منه نبيكمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأعوذ بك مما استعاذك منه نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأسألك مما سألك به عبادك الصالحون ، وإن قال : أسألك الجنة ، وما قرب إليها من قول وعمل ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآيتين ربنا آتنا في الدنيا حسنة الآية ، ثم يستغفر للمؤمنين ، والمؤمنات الأحياء منهم ، والأموات ، وليس بعد هذا دعاء مفضل ، ولا كلام مأثور ، وإن اقتصر على الاستعاذة بالكلمات التي ذكرناها آنفا أجزأه ، وهذا كله من فضائل التشهد ، ومندوب إليه . أهـ .

قلت : هذا الحديث روي من طريق عائشة ، وأبي هريرة ، فحديث عائشة أخرجه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، فالبخاري أخرجه في الصلاة ، وفي الاستقراض ، والباقون في الصلاة ، وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وحديث عائشة عند البخاري في باب الدعاء قبل السلام من طريق شعيب ، عن الزهري ، عن عروة عنهما رفعته : كان يدعو في الصلاة اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا ، وفتنة الممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم ، والمغرم ، وهكذا أخرجه النسائي من طريق معمر ، عن الزهري ، وحديث أبي هريرة عند البخاري ، ومسلم من طريق هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة [ ص: 207 ] كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهؤلاء الكلمات اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر المسيح الدجال .

ورواه مسلم من طريق الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير بلفظ : إذا تشهد أحدكم ، فليستعذ بالله من أربع ؛ يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر المسيح الدجال ، ورواه مسلم أيضا من طريق الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن محمد بن أبي عائشة ، عن أبي هريرة رفعه : إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير ، فليتعوذ بالله من أربع ، فذكرها ، وفي رواية له من هذا الوجه من التشهد ، ولم يذكر الآخر .

ورواه مسلم أيضا من طريق طاوس ، عن أبي هريرة رفعه بلفظ : عوذوا بالله من عذاب الله ، عوذوا بالله من عذاب القبر ، عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال ، عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات ، وله عن أبي هريرة طرق أخرى ، وقد عرف مما تقدم من سياق الأئمة لهذا الحديث أن الكلمات المذكورة أربعة ، ففي قول المصنف تبعا لصاحب القوت : بالكلمات الخمس نظر ؛ لأن الوارد في هذا الحديث ما ذكرناه ، نعم هذا الذي زاده صاحب القوت ، وتبعه المصنف ، وهو قوله : وإذا أردت بقوم فتنة . . . إلخ أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ : وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ، وللحاكم نحوه من حديث ثوبان ، وعبد الرحمن بن عابس ، وصححهما ، ولكن ليس فيه أنه مقيد بآخر الصلاة .

(تنبيه) :

لم يبين في رواية أبي هريرة المحل الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي فيه بهذه الاستعاذة ، وفي حديث عائشة عندهما كان يدعو بذلك في صلاته ، وفهم منه البخاري أنه في آخر صلاته ؛ ولذا ترجم عليه بقوله : باب الدعاء قبل السلام ، وعند مسلم ، وغيره من حديث أبي هريرة الأمر بذلك بعد الفراغ من التشهد ، وفي رواية له التقييد بالأخير ، ففيه استحباب الإتيان بهذا الدعاء بعد التشهد الأخير ، وهو مراد المصنف ، وقد صرح بذلك العلماء من المذاهب الأربعة ، وزاد ابن حزم الظاهري على ذلك ، فقال بوجوبه ، ومال إليه الشيخ محيي الدين بن عربي في الفتوحات ، إلا أن ابن حزم لم يخصه بالتشهد الأخير ، فقال : ويلزمه فرضا أن يقول إذا فرغ من التشهد في كلتا الجلستين : اللهم إني أعوذ بك . . . إلخ . قال : وقد روي عن طاوس أنه صلى ابنه بحضرته ، فقال : ذكرت هذه الكلمات ؟ قال : لا ، فأمره بإعادة الصلاة . أهـ .

قال العراقي : وهذا الأثر عن طاوس ذكره مسلم في صحيحه بلاغا بغير إسناد ؛ قال عياض : وهذا يدل على أنه حمل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك على الوجوب ، وقال النووي : ظاهر كلام طاوس أنه حمل الأمر به على الوجوب فإعادة الصلاة لفواته ، وجمهور العلماء على أنه مستحب ليس بواجب ، ولعل طاوسا أراد تأديب ابنه ، وتأكيد هذا الدعاء عنده لا أنه يعتقد وجوبه . أهـ .

وكذا قال أبو العباس القرطبي : يحتمل أن يكون إنما أمره بالإعادة تغليظا عليه لئلا يتهاون بتلك الدعوات فيتركها ، فيحرم فائدتها وثوابها . أهـ .

وفي هذا الاحتمال نظر لا يخفى عند التأمل ، قال العراقي : وما ذكره ابن حزم من وجوب ذلك عقب التشهد الأول لم يوافقه عليه أحد ، ثم إنه ترده رواية مسلم التي فيها تقييد التشهد بالأخير ، فوجب حمل المطلق على المقيد ، لا سيما والحديث واحد مداره على أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وقد أورد ابن حزم هذه العبارة على نفسه ، وقال : فهذا خبر واحد ، وزيادة الوليد بن مسلم زيادة عدل ؛ فهي مقبولة ، فإنما يجب ذلك في التشهد الأخير فقط ، ثم أجاب عنه بقوله : لو لم يكن إلا حديث محمد بن أبي عائشة وحده لكان ما ذكرت ، لكنهما حديثان ، كما أوردنا أحدهما من طريق أبي سلمة ، والثاني من طريق محمد بن أبي عائشة ، وإنما زاد الوليد على وكيع بن الجراح ، وبقي خبر أبي سلمة على عمومه فيما يقع عليه اسم تشهد . أهـ .

قال العراقي : وهو مردود ؛ لأن محمد بن أبي عائشة ، وأبا سلمة كلاهما يرويه عن أبي هريرة ، فهو حديث واحد لا حديثان ، ثم إن سنة الجلوس الأولى التخفيف فيه عند الأئمة الأربعة ، وغيرهم ، وحكى ابن المنذر ، عن الشعبي أن من زاد فيه على التشهد عليه سجدتا السهو ، ولم يستحضر ابن دقيق العيد في شرح العمدة هذه الرواية المقيدة بالأخير ، فقال : قوله إذا تشهد أحدكم عام في الأول ، والأخير ، وقد اشتهر بين الفقهاء التخفيف في الأول ، وعدم استحباب الذكر بعده

[ ص: 208 ] حتى سامح بعضهم في الصلاة على الآل فيه ، والعموم الذي ذكرناه يقتضي الطلب لهذا الدعاء ، فمن خصه فلا بد له من دليل راجح ، وإن كان نصا فلا بد له من صحة . أهـ .

قال العراقي : وقد عرفت المخصص . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية