إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة الرابعة : أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيبا للناس في الاقتداء ويحرس سره من داعية الرياء بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء فقد قال الله عز وجل : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار ، بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان وهذا ؛ لأن في الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء ، وهو هتك ستر الفقير فإنه ؛ ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو كإظهار الفسق على من تستر به ، فإنه محظور والتجسس فيه والاعتياد بذكره منهي عنه فأما من أظهره فإقامة الحد عليه إشاعة ولكن هو السبب فيها وبمثل هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له وقد قال الله تعالى : وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ندب إلى العلانية أيضا ؛ لما فيها من فائدة الترغيب فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيه فإن ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال .


(الوظيفة الرابعة: أن يظهر) عطاءه (حيث يعلم أن في إظهاره) على مرأى من الناس (ترغيبا للناس في الاقتداء) به وإرادة للسنة، وتحريضا على مثل ذلك من غيره لينافس فيه أخوه ويسرع إلى مثله أمثاله منهم، (ويحرس سره) أن يحفظ باطنه (عن داعية الرياء) والسمعة (بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء) من ربع المهلكات فهو حسن، وذلك من التحاض على طعام المسكين (فقد قال الله تعالى: إن تبدوا الصدقات ) وهي أعم من أن تكون واجبة أو تطوعا، ولكن إطلاقها في التطوع أكثر كما سيأتي ( فنعما هي ) ، فمدح المبدي بنعم (وذلك) لا يحسن إلا (حيث يقتضي الحال الإبداء) أي: الإظهار (إما للاقتداء) والتأسي أي: كي يقتدي به أمثاله كما تقدم، (وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس) ، فأظهر نفسه وكشفها للسؤال، وآثر التبذل على الصون والتعفف، (فلا ينبغي أن يترك التصدق) عليه في تلك الحالة (خيفة من الرياء في الإظهار، بل ينبغي أن يتصدق) عليه (ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان) ، فكان مفاد هذه الآية لهذا السائل الذي يسأل بلسانه وكفه، والآية التي بعدها كأنها للمستخفين بالمسألة، وهي لخصوص الفقراء الذين لا يظهرون نفوسهم بما يمنعهم الحياء والتعفف، فمن أظهر نفسه فأظهر إليه، ومن أخفاها فاخف له (وهذا؛ لأن في [ ص: 117 ] الإظهار محذورا ثالثا سوى المن والرياء، وهو هتك ستر الفقير؛ لأنه ربما يتأذى بأن يرى صورة المحتاج) بمد لسانه وكفه (فمن أظهر السؤال) وأبدى صفحة خده للتكفف (فهو الذي هتك ستر نفسه) بنفسه ونصال قرابه أدمى يده (فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو) بهذا الاعتبار (كإظهار الفسق على من يتستر به، فإنه محظور) أي: ممنوع شرعا، (والتجسس فيه والاغتياب بذكره منهي عنه) بلسان الشرع (فأما من أظهره) أي: الفسق وتجاهر به (فإقامة الحد عليه إشاعة) في الخلق وإظهار، (ولكن السبب فيها) والحامل لها أي: كشف عورة الفاسق، إنما حرم عليك أن تظهر عورة من يخفي عنك نفسه، فإذا أظهر نفسه بها فلا بأس أن تظهر عليه كما في القوت، (ولمثل هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له) .

قال العراقي: رواه ابن عدي وابن حبان في الضعفاء من حديث أنس بسند ضعيف ا ه .

قلت: ولفظ عدي في الكامل: من خلع، وأخرجه أيضا الخرائطي في مساوئ الأخلاق، وأبو الشيخ في الثواب، والبزار والبيهقي والخطيب وابن عساكر والديلمي والقضاعي وابن النجار والقشيري في الرسالة، كلهم من حديث أنس، وقال البيهقي: في إسناده ضعف، وإن صح حمل على فاسق معلن بفسقه اهـ .

قال الذهبي في المهذب: أحد رواته أبو سعيد الساعدي، مجهول، وفي الميزان: ليس بعمدة، ثم أورد له هذا الخبر اهـ .

ورواه الهروي في ذم الكلام وحسنه، وقد رد عليه الحافظ السخاوي في المقاصد، والحاصل أن جميع طرق هذا الحديث ضعيفة؛ فطريق أبي الشيخ والبيهقي فيه ابن الجراح عن أبي سعد الساعدي، وقد ذكر حاله، وطريق ابن عدي فيه الربيع بن بدر عن أبان، وهذا أضعف من الأول، ولكن للحديث شواهد تقويه من غير هذه الطرق؛ فقد أخرج الطبراني وابن عدي في الكامل والقضاعي من حديث جعدبة بن يحيى عن العلاء بن بشر عن ابن عيينة عن بهز بن الحكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده مرفوعا: ليس لفاسق غيبة.

قال الدارقطني وابن عيينة: لم يسمع من بهز، وأورده البيهقي في الشعب، ونقل عن شيخه الحاكم أنه غير صحيح ولا يعتمد، وأخرجه أبو يعلى والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والعقيلي وابن عدي وابن حبان والطبراني والبيهقي من طريق الجارود بن يزيد عن بهز، فهذا الإسناد بلفظ: انزعوا عن ذكر الفاجر؛ اذكروه بما فيه يحذره الناس. وهذا أيضا لا يصح؛ فإن الجارود ممن رمي بالكذب، وقال الدارقطني: هو من وضعه، وقد روي أيضا عن طريق يعمر عن بهز بهذا الإسناد، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق عبد الوهاب الصغاني عنه، وعبد الوهاب كذاب، وللحديث طرق أخرى عن عمر بن الخطاب رواه يوسف بن أبان، حدثنا الأبرد بن حاتم، أخبرني منهال السراج عن عمر قال السخاوي، وبالجملة فقد قال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل من حديث بهز ولا من حديث غيره، ولا يتابع عليه من طريق تثبت .

وأخرج البيهقي في الشعب بسند جيد عن الحسن أنه قال: ليس في أصحاب البدع غيبة، ومن طريق ابن عيينة أنه قال: ثلاثة ليس لهم غيبة: الإمام الجائر، والفاسق المعلن بفسقه، والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته. ومن طريق زيد بن أسلم قال: إنما الغيبة لمن يعلن بالمعاصي، ومن طريق شعبة قال: الشكاية والتحذير ليسا من الغيبة، وقال عقبة: هذا صحيح، فقد يصيبه من جهة غيره أذى فيشكوه ويحكي ما جرى عليه من الأذى، فلا يكون ذلك حراما، ولو صبر عليه كان أفضل، وقد يكون مزكيا في رواة الأخبار والشهادات فيخبر بما يعلمه من الراوي أو الشاهد ليتقي خبره أو شهادته، فيكون ذلك مباحا، والله أعلم .

(وقد قال الله تعالى: وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) قيل: سر التطوع وعلانية الصدقة المفروضة (فهذا ندب إلى العلانية أيضا؛ لما فيه من فائدة الترغيب) والتحريض لأمثاله على مثل ذلك، (فليكن العبد) العارف (دقيق التأمل في وزن الفائدة بالمحذور الذي فيها) هل يتساويان أو يرجح أحدهما على الآخر، (فإن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص) ، أي: باختلافهما (فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل) بهذا الاعتبار (ومن عرف الفوائد) المثمرة (والفوائد) المهلكة (ولم ينظر بعين الشهوة) النفسية بل عزلها عن مداخلتها [ ص: 118 ] في هذا المعنى (اتضح له الأولى) منها، وظفر (الأليق) فيهما (بكل حال) ، وحيث انتهينا من حل كلام المصنف في هذا الفصل، فاعلم أنه في جميع ما أورده تبع فيه صاحب القوت والمحاسبي والقشيري ولم يرتضه الشيخ الأكبر -قدس سره-، ورد عليهم هذا التقسيم في كتاب الشريعة، وهذا نص عبارته في الكتاب المذكور قال: وأما أحوال أهل الصدقة في الجهر بها والكتمان فتهم من يراعي صدقة السر لأجل ثناء الحق على ذلك في الخبر الحسن الذي يتضمن أنه لا تدري ما تنفق يمينه، وما جاء في صدقة السر واعتناء الله بذلك فيسر بها؛ لعلم الله في ذلك لا من طريق الإخلاص؛ فإن القوم منزهون عن الشرك في الأعمال لمشاهدتهم الحق في الأعمال، فيعلمون أن الحق ما ذكر باب السر في مثل هذا وفضله على الإعلان إلا العلم له تعالى في ذلك، وإن لم يطلع عليه مع التساوي في حالتي الجهر والسر لصدق العلم بالله ومعرفة من يعطي ومن يأخذ، ومن هذا الباب ذكر الله في النفس والملأ الوارد في الخبر، وأما صاحب الإعلان في الصدقة فليس هذا مشهده ولا أمثاله، وإنما الغالب على قلبه مشاهدة الحق في كل شيء، فكل حال عنده إعلان بلا شك ما يشهد غير هذا، فيعلن بالصدقة كما يذكره بالملأ، فإنه من ذكره بالملأ فقد ذكره في نفسه، وما كل من ذكره في نفسه ذكره في الملأ، فهذه حالة زائدة على الذكر النفسي، لها مرتبة تفوق صاحب ذكر النفس، فإن ذكر النفس لا يطلع عليه في الحالتين، فهو سر بكل وجه، فصدقة الإعلان تؤذن بظهور الاقتدار الإلهي فعمن يخفيها أو يسرها، وهو الظاهر في المظاهر الإمكانية: قل الله ثم ذرهم أغير الله تدعون وأما ما يذكره عامة أهل الطريق، مثل أبي حامد والمحاسبي وأمثالهما من العامة من الرياء في ذلك، فإنما ذلك خطاب بلسان العامة الجهلاء ما هو لسان أهل الله، ونحن إنما نتكلم مع أهل الله في ذلك، ولقد كان شيخنا يقول لأصحابه: أعلنوا الطاعة كما يعلن هؤلاء بالمعاصي؛ فإن كلمة الله هي العليا .

قال بعضهم لأصحاب شيخ مقبر: بماذا كان يأمركم الشيخ؟ قال: كان يأمر بإخفاء الأعمال ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بإظهار الأعمال ورؤية مجريها ومنشئها على أيديكم؟ فهذا من هذا الباب، فقد نبهتك على السر والإعلان في العطايا مع الخلاف بين علماء الرسوم في الصدقة المكتوبة وصدقة التطوع، وهو مشهور لا يحتاج إلى ذكره، وأما الكامل من أهل الله فهو الذي يعطي بالحالتين ليجمع بين المقامين، ويحصل النتيجتين وينظر بالعينين، فيعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق آثر فيه الإعلان، ويسر في وقت في الموضع الذي يرى الحق تعالى آثر فيه الإسرار، وهو الأولى بالمكمل من أهل الله اهتلت، والحق أن ما ذكره المصنف هو تسليك للمريد السالك في طريق الآخرة؛ نظرا إلى أنه لا ينفك غالب أحواله من الاتصاف بما لا يجوز به له الدخول في الحضرة الإلهية، فمثل هذا لا يغلب على قلبه مشاهدة الحق في كل شيء، وإن ما ذكره الشيخ -قدس سره- فهو مسلم أيضا، وهو مشهد كل العارفين الذين جازوا هذه المفاوز وقطعوا تلك الفيافي، فهم يشهدون في المظاهر والتعينات ما لا يدخل تحت وزن، فقد يكون المحذور عندهم عين المحضور والمنظور، فلا معارضة بين الكلامين؛ لأن كلا منهما باعتبارين مختلفين، ومع ذلك فالأذواق تختلف باختلاف المشارب، وللناس فيما يألفون مذاهب، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية