إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
[ ص: 2 ] كتاب الحلال والحرام .

وهو الكتاب الرابع من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين .

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله الذي خلق الإنسان من طين لازب وصلصال ثم ركب صورته في أحسن تقويم وأتم اعتدال ثم غذاه في أول نشوه بلبن استصفاه من بين فرث ودم سائغا كالماء الزلال ثم حماه بما آتاه من طيبات الرزق عن دواعي الضعف والانحلال ثم قيد شهوته المعادية له عن السطوة والصيال وقهرها بما افترضه عليه من طلب القوت الحلال وهزم بكسرها جند الشيطان المتشمر للإضلال ولقد كان يجري من ابن آدم مجرى الدم السيال فضيق عليه عزة الحلال المجرى والمجال إذ كان لا يبذرقه إلى أعماق العروق إلا الشهوة الماثلة إلى الغلبة والاسترسال فبقي لما زمت بزمام الحلال خائبا خاسرا ما له من ناصر ولا وال .

والصلاة على محمد الهادي من الضلال وعلى آله خير آل وسلم تسليما كثيرا .


[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواهب الغني الفرد المتعال، المنعم الذي منح لأصفيائه كمال الرشد في التمييز بين الحرام والحلال، عز أن يدانيه مثال أو شريك في حسن إبداع هذا العالم على أحسن منوال، خلص لأحبابه طيبات الرزق الدانية قطوفها، وأدر لهم أخلاف خلفات النعم المحفوفة صنوفها بكل جمال، فهي تغدو وتروح عليهم بالغدو والآصال، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد زاكي الخلال المنعوت بأشرف الخصال المرشد الهادي أمته من إغواء شياطين الإضلال إلى سبيل الاستقامة والاعتدال، وعلى الأصحاب والآل وذويه وعترته أولي الأفضال ومتبعي سنته عند تقلبات الأحوال ما تعاقبت الأيام بالليال، أما بعد:

فهذا شرح ( كتاب الحلال والحرام ) ، وهو الرابع من الربع الثاني، للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي ، قطب العلم والحال والمقام، روح الله روحه في الملأ الأعلى، وأوردنا من حياض فهومه المشرب الأجلى .

قصدت فيه توضيح عبارته وتكميل سياقاته، وحل رموزه وإشاراته، وفك دقائقه ومهماته، مقرا بالعجز الظاهر البادي في البادي والحاضر، معترفا بقصور الباع، وعدم الاتساع من إحاطة موجبات السلب المسورة بالامتناع، والله جل شأنه أسأل الإعانة والتوفيق لمحابه في حسن الحل والإبانة، وعلى فضله أعتمد وأتوكل وهو حسبي وربي، لا إله إلا هو، وعليه المعول .

قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) اقتداء بالكتاب واتباعا لسنة سيد الأحباب، ثم أردفه بالحمد مراعيا أنواع البلاغة التي منها لزوم ما لا يلزم وبراعة الاستهلال، والتضمين والاقتباس، فقال: (الحمد لله الذي خلق الإنسان) مقتبسا من كلام الله الملك الرحمن، أي: أوجده من العدم بعد أن لم يكن، والإنسان بالكسر اسم جنس يقع على الذكر والأنثى، والواحد والجمع، واختلف في اشتقاقه على زيادة النون الأخيرة، فقال البصريون : من الأنس، فالهمزة أصلية ووزنه فعلان، وقال الكوفيون : من النسيان، فالهمزة [ ص: 3 ] زائدة، ووزنه إفعال على النقص، وأصله إنسيان على إفعلان، ولهذا يرد إلى أصله في التصغير فيقال: إنيسيان، أشار إلى الذي خلق منه فقال: (من الطين) هو التراب والماء المختلط، وقد يسمى بذلك، وإن زالت عنه قوة الماء. ذكره الراغب ، وقال الحراني : هو متحجر التراب حيث يصير متهيئا لقبول وقوع الصورة فيه، (اللازب والصلصال) ، فاللازب اللين من وصول الماء إليه، يقال: لزب الطين لزوبا، أي: لصق، ومنه حديث علي : ولاطها بالبلة حتى لزبت ، أي: لصقت ولزمت، والصلصال اليابس الذي له صلصلة، وفيه اقتباس من قوله تعالى: خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، أي: كالخزف، وقد خلق الله آدم من تراب ثم جعله طينا، ثم حمأ مسنونا، ثم صلصالا فلا يخالف ذلك قوله من تراب ونحوه، (ثم ركب صورته) الحسية (في أحسن تقويم وأتم اعتدال) ، وقد اقتبس ذلك من قوله تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك وقوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم يقال: قومه فتقوم، أي: عدله فتعدل، والاعتدال توسط حال بين حالين في كم أو كيف، وكل ما تناسب فقد اعتدل، (ثم غذاه في أول نشوه بلبن) ، أي: جعل غذاءه الذي تقوم به بنيته الظاهرة من لبن (استصفاه) أي: صفاه وخلصه (من بين فرث ودم) ، والفرث السرجين ما دام في الكرش (سائغا) أي: سهلا (كالماء الزلال) ، أي: العذب البارد، اقتبسه من قوله تعالى: من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (ثم حماه) من الحماية وهي المنع والوقاية (بما آتاه) أي: أعطاه (من طيبات الرزق) اقتبسه من قوله تعالى: كلوا من طيبات ما رزقناكم (من دواعي الضعف والانحلال) متعلق بقوله: ثم حماه، أي: وقاه بذلك الغذاء الذي هو من طيبات الرزق عن طرو الأسباب الداعية لضعف البدن وانحلال صورة التركيب والضعف، وهي القوى حسا ومعنى، أو هو خلاف القوة، ويكون في النفس والبدن والمال، وقيل: بالضم في البدن وبالفتح في العقل والرأي، (ثم قيد شهوته) أصل الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده ولا تتمالك عنه (المعادية له) يقال: عاداه معاداة إذا أظهر له العداوة، وإنما كانت الشهوة معادية للإنسان لكونها تجره إلى المناهي الشرعية وتتسرع لإيقاعه في كل مذموم شرعا، ومن ذلك في الخبر المشهور: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات (عن السطوة والصيال) بكسر الصاد المهملة بمعنى الصولة، وهي والسطوة الأخذ بشدة وقهر، وذلك التقييد من كمال فضل الله وإحسانه على الإنسان، ولولا ذلك لم يملك نفسه عن النزوع إلى الشهوات الحسية والمعنوية، (وقهره) أي: غلبه وكسر شوكته (بما افترضه عليه) ، يقال: فرضه وافترضه بمعنى واحد، (من طلب الحلال) اقتبسه من الخبر الآتي ذكره: طلب الحلال فريضة ، وسيأتي معناه .

(تسبح له الرمال) أي: تنزهه وتقدسه، فما من ذرة من ذراته إلا وهي شاهدة لوحدانيته مقرة بربوبيته، وخص الرمال وإن كان كل شيء كذلك بموجب قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده لكثرة أجزائها ومجاوزة الحد وإحصائها (وتسجد) له (الظلال) جمع ظل، وهو أعم من الفيء، فإنه يقال ظل الشيء، وظلت الجنة ولكل موضع لم تصل إليه الشمس يقال له ظل ولا يقال الفيء، إلا لما زال عنه الشمس، (ويتدكدك) أي: يضمحل، ويلصق بالتراب يقال: دكه دكا إذا دحاه وبسطه، فتدكدك صار مدحوا مبسوطا لاصقا بالأرض (من هيبته) الحاصلة إثر مشاهدة جلال الله وعظمته، وقد تكون عن الجمال الذي هو جمال الجلال (صم الجبال) ، يقال: حجر أصم، أي: مصمت شديد، والجمع الصم كأحمر وحمر ولو قال: شم بالشين بدل الصم لكان جائزا، وهي المرتفعة إلا أن تدكدك المصمت الشديد أنسب في المقام، (فهزم بكسرها) أي: كسر تلك الشهوة (جند الشيطان) أي: أعوانه وعساكره المجرورة تحت راياته، (المتشمر) أي: المتهيئ (للإضلال) أي: لإغواء الإنسان عن سبيل الرشد، وذلك مصداق قوله تعالى على لسانه: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم الآية، وقال تعالى على لسانه أيضا: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، (فلقد كان) كيده (يجري من ابن آدم ) أي: فيه (مجرى الدم السيال) ، أي: لا يحس بجريه كالدم في الأعضاء، ووجه الشبه شدة الاتصال، والمعنى يجري منه، أي: فيه حيث يجري فيه [ ص: 4 ] الدم، وأشار بسياقه هذا إلى الحديث الذي رواه أحمد والشيخان وأبو داود عن أنس ، والشيخان وأبو داود وابن ماجه عن صفية رفعاه: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" ، وقد تقدم تحقيقه في كتاب الصوم (فضيق عليه) ، أي: شدد عليه (عزة الحلال) ، أي: قوته وغلبته، (المجرى) مفعل من الجري أو مصدر ميمي، (والمجال) مفعل من الجولان وهو الحركة (إذا كان لا يبذرقه) أي: لا يوصله، وأصل البذرقة الخفارة (إلى أعماق) جمع عمق بضمتين هو البعد سفلا (العروق) جمع عرق معروفة، ومنها الأوردة والشرايين (إلا الشهوات) النفسية (المائلة) بطبعها (إلى الغلبة) أي: الشدة والتسلط (والاسترسال) أي: الدعة والهوينا، (فبقي) أي: الشيطان (لما زمت) تلك الشهوات أي: قيدت (بزمام الحلال) ، وأصل الزمام الخيط الذي يشد في البرة أو في الخشاش، ثم يشد إليه المقود، ثم سمي به المقود نفسه (خاسئا) أي: معيبا مطرودا، وهو حسير (خاسرا) في صفقته التي اعتقدها (ما له من ناصر) ينصره، (ولا وال) يلي إعانته، وفي الكلام المذكور أولا تمثيل وتصوير أراد أن للشيطان قوة التأثير في السرائر، وإن كان منفورا منكرا في الظاهر فإليه رغبة روحانية في الباطن بتحريكه تنبعث القوى الشهوانية في المواطن، ومن لم ينتبه لحسن هذا التمثيل ضل في رد ذلك المقال وأضل; حيث قال: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، فهو كالدلالة على بطلان ما يقال: إنه يدخل في بدن الآدمي ويخالطه لأنه إذا أمكنه ذلك لكان ما يذكره في باب المبالغة أحق إما أنه ضل فلأنه لم يدر أن الكلام المذكور مأخوذ من مشكاة النبوة، مصبوب في قالب التمثيل، والغرض منه الشيطان منفور محذور منه في الظاهر، مطبوع متبوع في الباطن، والغرض من التمثيل المنقول عنه بيان كمال اهتمامه في أمر الإغواء وتصوير قوة استيلائه على بني آدم من جميع الجهات، وإما أنه أضل فلأن الفخر الرازي نقل عن القاضي نقل قبول; حيث قال: هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال: إنه يدخل في بدن الآدمي، فتأمل ذلك .

(والصلاة) الكاملة منه (على) حبيبه أبي القاسم ( محمد الهادي ) أمته (من) ظلمات (الضلال) الذي هو العدول عن الطريق المستقيم (وعلى آله) الآيلين إليه وهم قرابته الأدنون، (خير آل) وخيرتهم مستفادة من قوله تعالى: كنتم خير أمة بطريق الأولية، وإنما اقتصر على ذكرهم دون الأصحاب; لأن فيهم من له شرف صحبة غني عن ذكرهم، وأما حكم إفراد الصلاة عليه عن السلام، فقد تقدم البحث فيه في أول كتاب العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية