إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان فضيلة الخمول .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وقال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم : رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ، لو قال : اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا .

وقال صلى الله عليه وسلم : ألا أدلكم على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر جواظ وقال أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تتخلخل في صدره، لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم» وقال صلى الله عليه وسلم: إن من أمتي من لو أتى أحدكم فسأله دينارا لم يعطه إياه ، ولو سأله درهما لم يعطه إياه ولو سأله فلسا لم يعطه إياه، ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاه إياها ، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها ، وما منعها إياه إلا لهوانها عليه .

وروي ، أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يبكيك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن اليسير من الرياء ، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء ، الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن ، حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، ينجون من كل غبراء مظلمة وقال محمد بن سويد قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له لازم لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان، فصلى ركعتين فأوجز فيهما، ثم بسط يديه فقال: يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة، فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق، فقال: يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم، فسكن وتبع الرجل صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله، ثم بكر إليه، فخرج إليه، فقال: إني أتيتك في حاجة، فقال: ما هي؟ قال: تخصني بدعوة، قال: سبحان الله! أنت أنت، وتسألني أن أخصك بدعوة؟! قال: ما الذي بلغك ما رأيت؟ قال: أطعت الله فيما أمرني ونهاني، وسألت الله فأعطاني .


(بيان فضيلة الخمول) *

(قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: رب) هو للتقليل هنا، قال ابن هشام: وليست هي للتقليل دائما خلافا للأكثر، ولا للتكثير دائما خلافا لابن درستويه وجمع، بل للتكثير كثيرا وللتقليل قليلا (أشعث) أي: الثائر شعر الرأس، قد أخذ فيه الجهد حتى أصابه الشعث (أغبر) أي: غبر الغبار لونه لطول سفره في طاعة الله كحج وجهاد وصلة رحم وكثرة عبادة (ذي طمرين) تثنية طمر بالكسر، وهو الثوب الخلق (لا يؤبه به) أي: لا يبالى به، ولا يلتفت إليه لحقارته (لو أقسم على الله) أي: لو حلف عليه ليفعلن شيئا (لأبره) أي: أبر قسمه، وأوقع مطلوبه؛ إكراما له، وصونا ليمينه عن الحنث؛ لعظم منزلته عنده. أو: معنى القسم الدعاء، وإبراره إجابته (منهم البراء بن مالك) أخو أنس بن مالك لأبيه؛ لأن أم أنس أم سليم، وأم البراء السحماء، وغلط من قال: أمهما أم سليم، وكان حسن الصوت، يرجز لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، شهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- المشاهد إلا بدرا، وله يوم اليمامة أخبار، وقتل يوم حصن تستر، في خلافة عمر.

قال العراقي: رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس بسند ضعيف: "رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك". وللحاكم نحوه بهذه الزيادة، وقال: صحيح الإسناد، قلت: بل ضعيفه. اهـ .

قلت: روى الترمذي من طريق ثابت وعلي بن زيد، عن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رب أشعث لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك، فلما كان يوم تستر من بلاد فارس انكشف الناس، فقال الناس: يا براء أقسم على ربك، فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك، فحمل وحمل الناس معه، فقتل مرزبان الزأرة من عظماء الفرس، وأخذ سلبه، فانهزم [ ص: 235 ] الفرس، وقتل البراء".

ورواه الحاكم في المستدرك من طريق سلامة، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس نحوه .

وأما بدون هذه الزيادة: فروى أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" وفي رواية لمسلم: "رب أشعث أغبر ذي طمرين من أمتي يطوف على الأبواب، ترده اللقمة واللقمتان، لو أقسم على الله لأبره" وفي رواية له أيضا: "رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" وقد روى الخطيب هذا اللفظ من حديث أنس.

وروى الحاكم وأبو نعيم من حديث أبي هريرة: "رب أشعث أغبر ذي طمرين، تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره".

(وقال ابن مسعود) رضي الله عنه (قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، لو قال: اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه ولم يعطه من الدنيا شيئا) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا، ومن طريقه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، بسند ضعيف. اهـ .

قلت: وقد رواه كذلك ابن عدي بهذه الزيادة، ورواه البزار في مسنده، لكن إلى قوله: "لأبره" قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا جارية بن هرم، وقد وثقه ابن حبان على ضعفه .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على أهل الجنة) كذا في النسخ، والرواية: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى، قال: (كل) بالرفع لا غير، أي: هم كل (ضعيف) عن أذى الناس، أو عن المعاصي، ملتزم الخشوع والخضوع بقلبه وقالبه (مستضعف) بفتح العين، كما في التنقيح عن ابن الجوزي، قال: وغلط من كسرها، فإن المراد أن الناس يستضعفونه ويحتقرونه، وفي علوم الحديث للحاكم أن ابن خزيمة سئل عن الضعيف فقال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين .

(وأهل النار كل مستكبر) أي: صاحب كبر، والكبر: تعظيم المرء نفسه واحتقار غيره، والأنفة من مساواته (جواظ) بالتشديد، هو الجموع المنوع، وقيل: هو الكثير اللحم، المختال في مشيته .

قال الشيخ الأكبر في كلامه على الأولين: إنما نالوا هذه المرتبة عند الله؛ لأنهم صانوا قلوبهم عن أن يدخلها غير الله، أو تتعلق بكون من الأكوان سوى الله، فليس لهم جلوس إلا مع الله، ولا حديث إلا مع الله، فهم بالله قائمون، وفي الله ناظرون، وإليه راحلون ومنقلبون، وعنه ناطقون، ومنه آخذون، وعليه متوكلون، وعنده قاطنون، فما لهم معروف سواه، ولا مشهود إلا إياه، صانوا نفوسهم عن نفوسهم، فلا تعرفهم نفوسهم، فهم في غيابات الغيب، المحجوبون وهم ضنائن الحق المستخلصون، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق مشي ستر كله حجاب. فهذه حالة هذه الطائفة .

قال العراقي: متفق عليه من حديث حارثة بن وهب. اهـ .

قلت: لفظهما: "ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جعظري جواظ مستكبر".

وهكذا رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والطبراني، من حديث معبد بن خالد، عن حارثة بن وهب الخزاعي، والمستورد بن شداد الفهري، معا .

ورواه الطبراني أيضا، والضياء في المختارة، عن معبد بن خالد، عن ابن عبد الله الجدلي، عن زيد بن ثابت .

وروى الطبراني من حديث معاذ بلفظ: "ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة، كل ضعيف مستضعف وذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره" وروى أحمد من حديث حذيفة بلفظ: "ألا أخبركم بشر عباد الله، الفظ المستكبر. ألا أخبركم بخير عباد الله، الضعيف المستضعف وذي الطمرين، لو أقسم على الله لأبر قسمه".

وروى الطبراني من حديث أبي الدرداء: "ألا أخبرك يا أبا الدرداء بأهل النار، كل جعظري جواظ مستكبر، جماع منوع. ألا أخبرك بأهل الجنة، كل مسكين لو أقسم على الله لأبره".

وروى ابن قانع، والحاكم من حديث سراقة بن مالك: "أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون".

وروى الشيرازي في الألقاب، والديلمي من حديث أبي عامر الأشعري: "أهل النار كل شديد قبعثرى، وأهل الجنة كل ضعيف مزهد".

(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه (قال صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تتلجلج في صدره، لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم") بيض له العراقي.

(وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله دينارا لم يعطه إياه، ولو سأله درهما لم يعطه إياه، [ ص: 236 ] ولو سأله فلسا لم يعطه إياه، ولو سأل الله تعالى الجنة أعطاه إياها، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها، وما منعه الدنيا لهوان عليه، ذو طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره) .

قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط من حديث ثوبان بإسناد صحيح، دون قوله: "ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها، وما منعه إياها لهوانه عليه" وروي مرسلا. اهـ .

قلت: هو من مرسل سالم بن أبي الجعد، رواه هناد في الزهد، ولفظه: "إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم فسأله دينارا لم يعطه إياه، ولو سأله درهما لم يعطه إياه، ولو سأله فلسا لم يعطه إياه، ولو سأل الله الجنة لأعطاها إياه، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها، وما يمنعها إياه لهوانه عليه، ذو طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله تعالى لأبره".

ورواه ابن صصرى في أماليه بلفظ: "إن من أمتي من لو جاء أحدهم إلى أحدكم فسأله دينارا أو درهما ما أعطاه، ولو سأل الله الجنة لأعطاها إياه، ولو أقسم على الله لأبره، ولو سأله شيئا من الدنيا ما أعطاه؛ تكرمة له".

ورواه الحارث بن أبي أسامة مرفوعا من حديث ابن عباس بلفظ: "إن من أمتي لمن لو قام على باب أحدكم فسأله دينارا ما أعطاه، أو درهما ما أعطاه، أو فلسا ما أعطاه، ولو سأل الله الدنيا ما أعطاه، وما يمنعه إلا لكرامته عليه، ولو سأله الجنة لأعطاه، ولو يقسم على الله لأبره".

(وروي أن عمر -رضي الله عنه- دخل المسجد فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال) له عمر: (ما يبكيك) يا معاذ؟ (فقال) معاذ: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن اليسير من الرياء شرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة") .

قال العراقي: رواه الطبراني، والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد. قلت: بل ضعيفه؛ فيه عيسى بن عبد الرحمن، وهو الزرقي، متروك. اهـ .

قلت: لفظهما بعد قوله: "شرك": "وإن من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، وإن الله يحب الأبرار الأصفياء الأتقياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة" وعيسى بن عبد الرحمن الزرقي يكنى أبا عبادة، يروي عن الزهري، قال النسائي وغيره: متروك .

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ثوبان: "طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء".

(وقال محمد بن سويد) بن كلثوم الفهري، صدوق، مات بعد المائة، روى له النسائي: (قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له) أي: خامل، لا يذكر، ولا يعرف (لازم لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران) أي: ثوبان (خلقان، فصلى ركعتين فأوجز فيهما، ثم بسط يديه) إلى السماء (فقال: يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة، فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام) وفي بعض النسخ: حتى تغيمت السماء بالغيم (وأمطروا) وفي نسخة: وأمطرت (حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق، فقال: يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم، فسكن) المطر (وتبع الرجل صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله، ثم بكر إليه، فخرج إليه، فقال: إني أتيتك في حاجة، فقال: ما هي؟ قال: تخصني بدعوة، قال: سبحان الله! أنت أنت، وتسألني أن أخصك بدعوة؟! قال: ما الذي بلغك ما رأيت؟ قال: أطعت الله فيما أمرني ونهاني، وسألت الله فأعطاني) وهذا وأمثاله يجري لذوي الأنس مع الله، وليس لغيرهم التشبه بهم .

قال الحسن: احترقت أخصاص بالبصرة إلا خصا بوسطها، فقيل لصاحبه: ما بال خصك لم يحترق؟ قال: أقسمت على ربي أن لا يحرقه .

ورأى أبو حفص رجلا مدهوشا، فقال: ما لك؟ قال: ضل حماري، ولا أملك غيره، فوقف أبو حفص وقال: لا أخطو خطوة ما لم ترد حماره، فظهر حماره فورا .

وقال الجنيد: أهل الأنس بالله يقولون في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة .

وقال الشعراوي في المنن: من الأخفياء الشعث من يجاب دعاؤه كلما دعا، حتى إن بعضهم أراد جماع زوجته فقالت: الأولاد متيقظون، فقال: أماتهم الله، وكانوا سبعة، فصلوا عليهم بكرة النهار. فبلغ البرهان المتبولي، فأحضره، فقال: أماتك الله، فمات حالا، وقال: لو بقي لأمات خلقا كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية