إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولكنا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل الفقر من المال على الخصوص وإلا ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر لأن حاجاته لا حصر لها .

ومن جملة حاجاته ما يتوصل إليه بالمال وهو الذي نريد الآن بيانه فقط فنقول كل فاقد للمال فإنا نسميه فقيرا بالإضافة إلى المال الذي فقده إذا كان ذلك المفقود محتاجا إليه في حقه ، ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال ، عن الفقر ونحن نميزها ونخصص كل حال باسم لنتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها .

الحالة الأولى : وهي العليا أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به وهرب من أخذه مبغضا له ومحترزا من شره وشغله وهو الزهد واسم صاحبه الزاهد .

الثانية أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه لو أتاه وصاحب هذه الحالة يسمى راضيا .

الثالثة : أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه ، ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه بل إن أتاه صفوا عفوا أخذه وفرح به وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به وصاحب هذه الحالة نسميه قانعا إذ قنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة .

الرابعة : أن يكون تركه الطلب لعجزه وإلا فهو راغب فيه رغبة لو وجد سبيلا إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه ، أو هو مشغول بالطلب وصاحب هذه الحالة نسميه بالحريص

الخامسة : أن يكون ما فقده من المال مضطرا إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب ، ويسمى صاحب هذه الحالة مضطرا كيفما كانت رغبته في الطلب إما ضعيفة وإما قوية وقلما تنفك هذه الحالة عن الرغبة فهذه خمسة أحوال أعلاها الزهد والاضطرار إن انضم إليه الزهد وتصور ذلك فهو أقصى درجات الزهد كما سيأتي بيانه ووراء هذه الأحوال الخمسة حالة هي أعلى من الزهد وهي أن يستوي عنده وجود المال وفقده فإن وجده لم يفرح به ولم يتأذ وإن فقده فكذلك بل حاله كما كان حال عائشة رضي الله تعالى عنها إذ أتاها مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرقتها من يومها ، فقالت خادمتها : ما استطعت فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه ؟ فقالت لو ذكرتيني لفعلت فمن هذه حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزائنه لم تضره إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى لا في يد نفسه فلا يفرق بين أن تكون في يده أو في يده غيره ، وينبغي أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغني لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعا ، وليفهم من هذا الاسم معنى يفارق اسم الغني المطلق على الله تعالى وعلى كل من كثر ماله من العباد ، فإن من كثر ماله من العباد وهو يفرح به فهو فقير إلى بقاء المال في يده وإنما هو هو غني عن دخول المال في يده لا عن بقائه فهو إذن فقير من وجه ، وأما هذا الشخص فهو غني عن دخول المال في يده وعن بقائه في يده وعن خروجه من يده أيضا ، فإنه ليس يتأذى به ليحتاج إلى إخراجه وليس يفرح به ليحتاج إلى بقائه .

وليس فاقدا له ليحتاج إلى الدخول في ، يديه فغناه إلى العموم أميل ، فهو إلى الغنى الذي هو وصف الله تعالى أقرب ، وإنما قرب العبد من الله تعالى بقرب الصفات لا بقرب المكان ولكنا لا نسمي صاحب هذه الحالة غنيا بل مستغنيا ليبقى الغني اسما لمن له الغنى المطلق عن كل شيء .

وأما هذا العبد فإن استغنى عن المال وجودا أو عدما فلم يستغن عن أشياء أخر سواه ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه الذي زين الله به قلبه فإن القلب المقيد بحب المال رقيق والمستغني عنه حر والله تعالى هو الذي من هذا الرق ، فهو محتاج إلى دوام هذا العتق .والقلوب متعلقة بين الرق والحرية في أوقات متقاربة ، لأنها بين إصبعين من أصابع الرحمن فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقا عليه مع هذا الكمال إلا مجازا .


(لكنا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل الفقر من المال على الخصوص) وهو الذي اقتصر عليه أئمة اللغة في تفسيره (وإلا ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا تنحصر; لأن حاجاته لا حصر لها ومن جملة حاجاته ما يتوصل إليه بالمال وهو الذي نريد الآن بيانه فقط) وهذا هو الفقر المقيد الذي هو القسم الثاني من الاحتياج وهو احتياجه إلى الوسائل التي تقوم بها ذاته ويستعان على تحصيلها بالمال، فالمال هو المفقود المحتاج إليه في هذه المواضع .

(فنقول كل فاقد للمال فإما أن نسميه فقيرا بالإضافة إلى المال الذي فقده إذا كان ذلك المفقود محتاجا إليه في حقه، ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عند الفقد، ونحن نميزها ونخصص كل حال باسم ليتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها، الحالة الأولى: وهي العليا) المبغض للمال الكاره له (بحيث يكون لو أتاه المال لكرهه وتأذى به) وتركه (وهرب من أخذه مبغضا له) ومستثقلا ومستحقرا (ومحترزا من شره وشغله) عما هو الأهم وهو القرب من الله تعالى (و) هذا (هو الزهد) بالضم (واسم صاحبه الزاهد) يقال: زهد فيه وعنه زهدا وزهادة بمعنى تركه وأعرض عنه، وجمع الزاهد زهاد ويقال للمبالغة: زهيد، بكسر الزاي وتشديد الهاء، وزهد يزهد بفتحتين لغة فيه .

(الحالة الثانية) : أن يكون ذلك الفاقد (بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح بحصوله ولا) يبغضه (ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه) أي: يتركه (لو أتاه وصاحب هذه الحالة يسمى راضيا) .

(الحالة الثالثة: أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه، ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه) أي: يسرع ويتحرك (بل إن أتاه [ ص: 267 ] صفوا عفوا) أي: من غير تعب (أخذه وفرح به وإن افتقر) إلى معالجة (تعب في طلبه) ومشقة (لم يشتغل به) ولم يلتفت إليه (وصاحب هذه الحالة نسميه قانعا إذ أقنع نفسه بالموجود) الحاضر (حتى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة) .

الحالة (الرابعة: أن يكون تركه الطلب لعجزه) عن تحصيله (وإلا فهو راغب فيه رغبة لو وجد سبيلا إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه، أو هو مشغول بالطلب) في الحال وصاحب هذه الحالة يسمى الحريص ورغبته هي الرغبة المذمومة وهو من حرص القصار الثوب إذا قشره بالدق .

الحالة (الخامسة: أن يكون ما فقده من المال مضطرا إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب، ويسمى صاحب هذه الحالة مضطرا كيفما كانت رغبته في الطلب إما ضعيفة وإما قوية قلما تنفك هذه الحالة عن الرغبة) إلا أنها ليست مذمومة .

(فهذه خمسة أعلاها الزهد) وهي الحالة الأولى (والاضطرار إن انضم إليه في الزهد وتصور ذلك) بأن يكون كارها للمال مع اضطراره (فهو أقصى درجات الزهد كما سيأتي بيانه) في الشطر الثاني، وإن انضم إلى حالة الاضطرار جزع وشكوى حرم ذلك وبين الدرجتين أوساط مختلفة المراتب فأي فقد قارنه رضا أو قناعة كان له فضل الراضي والقانع، وإن قارنه حرص كان لا له ولا عليه إلا أن يجره الحرص إلى أخذ المال من شبهة أو حرام، فهذا هو الفقر الحرام الذي يستعاذ منه كما سيأتي .

ثم إن الفقر له لواحق ثلاثة: التبتل والغناء والتجريد، وقد أشار المصنف إلى هذه اللواحق بطريق التلويح فقال (ووراء هذه الأحوال الخمسة حالة هي أعلى من الزهد وهو أن يستوي عنده وجود المال وفقده) وتقرير ذلك أنه قد سبق أن الفقد مطلق ومقيد فاعلم أن المطلق يراد لذاته لتعلقه بالله تعالى، والمقيد يراد لغيره لتعلقه بالمال، والحكمة في ذلك أن المال لما كان ملهيا عن الله تعالى وشاغلا عن طاعته ومميلا بصاحبه إلى جانب الترفه ومحرضا له على المعصية .

أثنى الشرع على الفقر ليتفرغ العباد بالتبتل إلى الله تعالى والانقطاع إليه; لأن حقيقة التبتل الانقطاع إلى الله تعالى فمن قطع تعلق قلبه عن الأغيار شغلا به وانقطاعا إليه فهو المتبتل، فإن وجدنا هذه صفته، واستولى ذلك على قلبه حتى صار واحدا واستوى عنده وجود المال وعدمه (فإن وجد لم يفرح به ولم يتأذ وإن فقد فكذلك) أي: لا يفرحه وجوده إن وجد ولا يحزنه فقده إن فقد (بل حاله) حال الغني عن دخول المال في يده، وعن بقائه وعن خروجه من يده، فإنه ليس يتأذى به فيحتاج إلى الخروج ولا يفرح به فيحتاج إلى البقاء، وليس فاقدا له فيحتاج إلى الدخول .

وهذا كما (كان حال عائشة - رضي الله عنها - إذ أتاها مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرقتها من يومها، فقالت خادمتها: ما استطعت فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟ فقالت لو ذكرتني لفعلت) رواه هشام بن عروة عن أبيه أن معاوية بعث إلى عائشة مرة بمائة ألف قال: فوالله ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فرقتها فقالت مولاة لها: لو اشتريت لنا من هذه الدراهم بدرهم لحما؟ فقالت: لو قلت لي قبل أن أفرقها فعلت.

ورواه محمد بن المنكدر التيمي وهو ابن خالة عائشة عن أم درة مولاة عائشة نحو هذه القصة، إلا أنها قالت: بعث إليها ابن الزبير بمال في غرارتين، قالت أراه ثمانين ومائة ألف، وقد تقدم ذلك له في كتاب ذم الدنيا .

(فمن هذه حاله فلو كانت الدنيا بحذافيرها) أي: بتمامها (في يده وخزانته لم يضره إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى لا في يد نفسه فلا يفرق بين أن تكون في يده أو في يد غيره، وينبغي أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغني) لا الغني (لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعا، وليفهم من هذا الاسم معنى يفارق اسم الغني المطلق على الله تعالى وعلى من كثر ماله من العباد، فإن من كثر ماله من العباد وهو يفرح به فهو فقير إلى بقاء المال في يده وإنما هو غني عن دخول المال في يده [ ص: 268 ] لا عن بقائه فهو إذا فقير من وجه، وأما هذا الشخص فهو غني عن دخول المال في يده وعن بقائه في يده وعن خروجه من يده أيضا، فإنه ليس يتأذى به فيحتاج إلى إخراجه وليس يفرح به ليحتاج إلى بقائه، وليس فاقدا له ليحتاج إلى الدخول في يده، فغناه إلى العموم أميل، فهو الغني الذي هو وصف الله تعالى أقرب، وإنما قرب العبد من الله تعالى بقرب الصفات لا بقرب المكان) .

والمراد بقرب الصفات قرب المرتبة والدرجة وذلك بالمسعى في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبه يصير العبد ربانيا قريبا من الملأ الأعلى من الملائكة، فإنهم على بساط القرب، فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم، بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الحق سبحانه وتعالى .

وطلب القرب من الله تعالى بالصفة أمر غامض تكاد تشمئز القلوب عن قبوله والتصديق به، وقد تقدم تلويح إلى ذلك فيما مضى في مواضع من هذا الكتاب، وهذا الذي ذكرناه هو الحظ الثالث من حظوظ المقربين في معاني أسماء الله تعالى (ولكنا لا نسمي صاحب هذه الحالة غنيا بل مستغنيا) وهو اصطلاح من المصنف - رحمه الله تعالى - انفرد به عمن تقدمه من الشيوخ وذلك (ليبقى الغني اسما له لمن له الغنى المطلق عن كل شيء .

وأما هذا العبد فإن كان استغنى عن المال وجودا وعدما فلم يستغن عن أشياء أخر سواه ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه الذي زين الله به قلبه فإن القلب المقيد بحب المال رقيق) أي: بمنزلته (والمستغني عنه حر) أي: بمنزلته (والله تعالى هو الذي أعتقه عن هذا الرق، فهو محتاج إلى دوام هذا العتق. والقلوب متقلبة بين الرق والحرية في أوقات متقاربة، لأنها بين أصبعين من أصابع الرحمن) يقلبها كيف شاء كما ورد ذلك في الخبر وتقدم .

(فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقا عليه مع هذا الكمال إلا مجازا) وقد أشار إلى ذلك المصنف في المقصد الأسنى حيث قال: والله تعالى هو الغني وهو المغني أيضا، ولكن الذي أغناه لا يتصور أن يصير بإغنائه غنيا مطلقا، فإن أقل أموره أنه يحتاج إلى المغني فلا يكون غنيا، بل يستغني عن غير الله تعالى بأن يمده الله تعالى بما يحتاج إليه لا بأن يقطع عنه أصل الحاجة .

والغني الحقيقي هو الذي لا حاجة له إلى أحد أصلا والذي يحتاج ومعه ما يحتاج إليه فهو غني بالمال، وهو غاية ما يدخل في الإمكان في حق غير الله تعالى، فأما فقد الحاجة فلا، ولكن إذا لم تبق حاجة إلا لله تعالى سمي غنيا ولو لم تبق أصل الحاجة لما صح قوله تعالى: والله الغني وأنتم الفقراء ولولا أنه يتصور أنه يستغني عن كل شيء سوى الله تعالى لما صح لله تعالى وصف المغني .

التالي السابق


الخدمات العلمية