الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
واعلم أن الزهد درجة هي كمال الأبرار ، وصاحب هذه الحالة من المقربين فلا جرم صار الزهد في حقه نقصانا ، إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وهذا لأن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا كما أن الراغب فيها مشغول بها والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن الله تعالى ، إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجابا فإنه أقرب إليك من حبل الوريد وليس هو في مكان حتى تكون السماوات والأرض حجابا بينك وبينه فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره ، وأنت لا تزال مشغولا بنفسك وبشهوات نفسك ، فكذلك لا تزال محجوبا عنه فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله تعالى والمشغول ببغض نفسه أيضا مشغول عن الله تعالى بكل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه ، فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه ونقص ولكن أحدهما أخف من الآخر بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضا وحبا ، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان

كرم الله وجهه الله جل ذكره في حالة واحدة ، فلا يجتمع أيضا بغض وحب في حالة واحدة ، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد والمشغول ببعضها غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة وتتبدل بالشهود فالكمال مرتقب لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله فالمحب والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة علفها وتسييرها ولكن أحدهما مستقبل الكعبة والآخر مستدبر لها فهما سيان بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر إذ يرجى له الوصول إليها ، وليس محمودا بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة في الوصول إليها فلا ينبغي أن تظن أنبغض الدنيا مقصود في عينه بل الدنيا عائق عن الله تعالى ولا وصول إليه إلا بدفع العائق ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله من زهد في الدنيا واقتصر عليه فقد استعجل الراحة بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة فبين أن سلوك طريق الآخرة وراء الزهد كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق عن الحج فإذن قد ظهر أن الزهد في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال ، وإن أريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء ، وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر ولا قلته تؤذيك إلا في قدر الضرورة مع أن المال محتاج إليه كما أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولا بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا ببغض الماء الكثير بل تقول : أشرب منه بقدر الحاجة وأسقي منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد ، فهكذا ينبغي أن يكون المال ؛ لأن الخبز والماء واحد في الحاجة وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر ، وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم علمت أن قدر حاجتك من الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حيا كما يأتيك قدر حاجتك من الماء على ما سيأتي بيانه في كتاب التوكل إن شاء الله تعالى .

قال أحمد بن أبي الحواري قلت : لأبي سليمان الداراني قال مالك بن دينار للمغيرة : اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها قال أبو سليمان هذا من ضعف قلوب الصوفية قد زهد في الدنيا ما غلبه من أخذها ، فبين أن كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان .

فإن قلت : فما بال الأنبياء والأولياء هربوا من المال ونفروا منه كل النفار فأقول : كما هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا أكثر من حاجتهم ففروا عما وراءه ولم يجمعوه في القرب والزوايا يدبرونه مع أنفسهم بل تركوه في الأنهار والآبار والبراري للمحتاجين إليه ، لا أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أو بغضه ، وقد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأخذوها ووضعوها في مواضعها وما هربوا منها .

إذ كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر وما نقل عنهم من امتناع فإما أن ينقل عمن خاف أن لو أخذه أن يخدعه المال ويقيد قلبه فيدعوه إلى الشهوات وهذا حال الضعفاء فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقهم كمال ، وهذا حكم جميع الخلق ؛ لأن كلهم ضعفاء إلا الأنبياء والأولياء وأما أن ينقل عن قوي بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفار نزولا إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك إذ لو اقتدوا به في الأخذ لهلكوا كما يفر الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحية لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون والسير بسير الضعفاء ضرورة الأنبياء والأولياء والعلماء .

التالي السابق


(واعلم أن الزهد درجة هي كمال الأبرار، وصاحب هذه الحالة من المقربين فلا جرم صار الزهد في حقه نقصانا، إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين) وهو قول أبي سعيد الخراز، وقد تقدم وحاصله أن هذه الحالة هي أعلى الدرجات، وهي أعلى من درجة الزهد، بل الزهد حال الأبرار وهذه حالة المقربين وهذا لأن الزاهد (الكاره للدنيا مشغول) عن الله (بالدنيا) أي: ببغضها (كما أن الراغب فيها مشغول) عن الله (بها) أي: بحبها .

(والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن الله تعالى، إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجابا فإنه) تعالى (أقرب إليك من حبل الوريد) كما هو نص القرآن (وليس هو في مكان حتى تكون السموات والأرض حجابا بينك وبينه) تعالى الله عن ذلك (فإنه أقرب إليك منك فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره وشغلك بنفسك وبشهواتك شغل بغيره، وأنت لا تزال مشغولا بنفسك وبشهوات نفسك، فلذلك لا تزال محجوبا عنه فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله والمشغول ببعض نفسه أيضا مشغول عن الله تعالى) وأما صاحب هذه الحالة فهو المستغرق الذي لا يشغله شيء عن الله [ ص: 269 ] تعالى ومن قال: إن الغنى من الفقر فإن أراد هذا فهو الصواب وإن أراد الغنى بالأعراض الدنياوية كان زيفا، فليس ذلك من وصف الله تعالى إذا أراد أن يحجب العبد عن معرفته وطاعته خوله بذلك حتى يشغله جزء من الدنيا .

قال أبو العباس الأقليشي - رحمه الله تعالى -: فمن افتقر إلى الله تعالى الافتقار الحقيقي وسأله الغنى الباقي لا العرضي أغنى نفسه الفقيرة بعلومه المنيرة، فاستفاد وأفاد وأنفق من مال لا يخاف عليه النفاد .

فهذا هو الغني في الدنيا والآخرة والباقي في غناه أبد الآباد، ومن حرم هذا الغنى ولو نال جميع ملك الدنيا فهو فقير، ولذلك قيل من جهل الله فهو فقير، ولقد أجاد القائل حيث يقول:


ومن ينفق الأيام في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر



انتهى. وهذا القدر كاف في معرفة حقائق التبتل والغنى الذي الفقر مطلوب لهما، وأما التجريد الذي هو أحد لواحق الفقر فسيأتي بيانه آخر الفصل .

ثم زاد المصنف في بيان حال كل من المشغولين بالحب وبالبغض وأكده بمثال فقال (بل كل ما سوى الله تعالى مثاله مثال الرقيب) وهو المراقب لحال العاشق المنتظر لتتبع حركاته وسكناته ويعبر عنه بالعاذل (الحاضر في مجلس) من مجالس السرور واللهو (جمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى حب الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره) في ذلك المجلس (فهو في حالة اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه) لشغله به (ولو استغرقه العشق) بأن ملكه ظاهرا وباطنا (لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه) كما هو شأن الاستغراق .

(فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه، فكذا النظر إلى غير المحبوب لبعضه شرك فيه ونقص ولكن أحدهما أخف من الآخر) لأن المبغض مقبل والراغب مدبر (بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضا وحبا، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة، فلا يجتمع أيضا بغض وحب في حالة واحدة، فالمشغول ببعض الدنيا غافل عن الله تعالى كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد والمشغول ببعضها غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة وتستبدل بالشهود) وارتفاع الحجاب من البين .

(فالكمال له مرتقب) أي: منتظر; (لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله تعالى) كما أن حبها مطية توصل إلى البعد عن الحضرة الإلهية (فالمحب والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة وعلفها وتسييرها) وخدمتها (ولكن أحدهما مستقبل الكعبة) بأن وجه وجهه إليها (والآخر مستدبر لها فهما سيان) أي: مستويان (بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر إذ يرجى له الوصول إليها، وليس محمودا بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها) ليلا ونهارا (الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة) بالعلف والتسيير (في الوصول إليها فلا ينبغي أن تظن) في نفسك (أن بغض الدنيا مقصود في عينه) أي: لذاته (بل بغض الدنيا عائق عن الله) شاغل عن الوصول إليه .

(ولا وصول إليه إلا بدفع العائق ولذلك قال أبو سليمان الداراني) - رحمه الله تعالى - (من زهد في الدنيا واقتصر عليه) أي: صار مشغولا به (فقد استعجل الراحة) لنفسه (بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة) نقله صاحب القوت (فبين) - رحمه الله تعالى - (أن سلوك طريق الآخرة وراء الزهد كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق [ ص: 270 ] عن الحج فإذا قد ظهر أن الزهد في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال، فإن أريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني) بالمعنى الذي سبق .

(بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء، وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر ولا قلته تؤذيك إلا في قدر الضرورة) الداعية (مع أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولا بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا ببغض الماء الكثير بل تقول: أشرب منه بقدر الحاجة وأسقي منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد، فهكذا ينبغي أن يكون المال; لأن الخبز والماء واحد في الحاجة) أي: فإن كلا منهما يحتاج إليه في دفع الجوع والعطش (وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر، وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم علمت أن قدر حاجتك من الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حيا كما يأتيك قدر حاجتك من الماء على ما سيأتي بيانه في كتاب التوكل إن شاء الله تعالى، قال أحمد بن أبي الحواري) الدمشقي - رحمه الله تعالى - (قلت: لأبي سليمان الداراني) - رحمه الله تعالى -: (قال مالك بن دينار) البصري - رحمه الله تعالى - (للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي) كنت (أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها) هكذا هو في القوت، ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد إلا أنه قال: الذي أهدى له الركوة هو الحارث بن نبهان الجرمي لا المغيرة، وهذا لفظه .

قال حدثني علي بن مسلم، حدثنا سيار، حدثنا الحارث بن نبهان الجرمي قال: قدمت من مكة فأهديت إلى مالك بن دينار ركوة قال وكانت عنده قال: فجئت يوما فجلست في مجلسه فقال: يا حارث بن نبهان، تعال فخذ تلك الركوة فقد شغلت علي قلبي، إني إذا دخلت المسجد جاءني الشيطان فقال لي يا مالك إن الركوة قد سرقت، فقد شغلت علي قلبي. ورواه أبو نعيم في الحلية من طريقه .

(قال أبو سليمان) - رحمه الله تعالى - (هذا من ضعف قلوب الصوفية) هو (قد زهد في الدنيا ما عليه من أخذها، فبين أن كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان) في المقام إذ كماله أن لا يبالي من أخذ متاع الدنيا، ولفظ القوت: فأراد أبو سليمان منه حقيقة الرضا بجريان الأحكام، وأراد مالك من نفسه حقيقة الزهد بأن يصرف عن قلبه الاهتمام، وسيأتي في كتاب التوكل له مزيد بيان .

(فإن قلت: فما بال الأنبياء) - عليهم السلام - (والأولياء هربوا من المال) كل الهرب (ونفروا منه كل النفار) وقد استوى عندهم وجوده وعدمه؟ (فأقول: قد هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا) منه (أكثر من حاجتهم) إليه في دفع العطش، (ففروا عما وراءه ولم يجمعوه في القرب) والروايا (يديرونه مع أنفسهم) أو على ظهورهم (بل تركوه في الأنهار والآبار والبراري للمحتاجين إليه، لا) على معنى (أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أو بغضه، فقد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فأخذوها ووضعوها في مواضعها وما هربوا منها إذ كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر) .

قال العراقي: وهذا معروف، وقد تقدم في آداب المعيشة عن البخاري تعليقه مجزوما من حديث أنس أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمال من البحرين وكان أكثر مال أتي به، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه. ووصله عمر بن محمد البحيري في صحيحه من هذا الوجه وفي الصحيحين من حديث عمرو بن عوف: قدم أبو عبيدة بمال من [ ص: 271 ] البحرين، فسمعت الأنصار قدومه، الحديث، ولهما من حديث جابر: لو جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا، فلم يقدم حتى توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أبو بكر مناديا فنادى: من كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة أو دين فليأتنا، فقلت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدني فحثا لي ثلاثا، انتهى .

قلت: وأما سيرة عمر - رضي الله عنه - فقد روى سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا زهير بن حيان قال: قال ابن عباس: دعاني عمر فأتيته فإذا بين يديه نطع عليه الذهب منثور، فقال: هلم فاقسم هذا بين قومك، والله أعلم حيث زوى هذا عن نبيه، وعن أبي بكر فأعطيته لخير أم لشر؟ قال: فأكببت عليه أقسم وأزيل، قال: فسمعت بكاء وإذا صوت عمر يبكي ويقول في بكائه: كلا والذي نفسي بيده ما حبسه عن نبيه وعن أبي بكر إرادة الشر لهما وأعطاه عمر إرادة الخير له.

وقال سعيد بن عامر الضبعي: قال محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قدمت من البحرين فلقيت عمر فسألني عن الناس فأخبرته، ثم قال: بم جئت؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف، قال: ويحك هل تدري ما تقول؟ قلت: نعم، قال: ارجع، فنم فإنك ناعس، قال: فأصبحت فأتيته فقال: ماذا جئت به؟ قلت: خمسمائة ألف، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم أن نكيلكم كيلا، وإن شئتم أن نعد عدا.

(وما ينقل عنهم من امتناع فإما أن ينقل عمن يخاف أن لو أخذه أن يخدعه المال) ويزيله عن مقامه (ويقيد قلبه فيدعوه إلى الشهوات) النفسية (وهذا حال الضعفاء فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقه كمال، وهذا حكم جميع الخلق; لأنهم كلهم ضعفاء إلا الأنبياء) - عليهم السلام - (والأولياء) من بعدهم .

(وأما أن ينقل عن قوي بلغ) رتبة (الكمال ولكن أظهر الفرار والنفار نزولا) منه (إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك إذ لو اقتدوا به في الأخذ لهلكوا) وهذا (كما يفر الرجل بين يدي أولاده من الحية لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكوا والسير بسير الضعفاء ضرورة الأنبياء والأولياء والعلماء) إذ هم القدوة .




الخدمات العلمية