إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبالترك يتبين زوال الرغبة ولذلك قيل لابن المبارك يا زاهد فقال : الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها وأما أنا ففي ماذا زهدت ؟

وأما العلم الذي هو مثمر لهذه الحال فهو العلم بكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى المأخوذ كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه ، وما لم يتحقق هذا العلم لم يتصور أن تزول الرغبة عن المبيع ، فكذلك من عرف أن ما عند الله باق ، وأن الآخرة خير وأبقى ، أي : لذاتها خير في أنفسها وأبقى كما تكون الجواهر خيرا وأبقى من الثلج مثلا .

ولا يعسر على مالك ، الثلج بيعه بالجواهر واللآلئ ، فهكذا مثال الدنيا والآخرة ، فالدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض ، والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له فبقدر قوة اليقين ، والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في البيع والمعاملة حتى إن من قوي يقينه يبيع نفسه وماله كما قال الله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ثم بين أن صفقتهم رابحة ، فقال تعالى : فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به فليس يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا القدر ، وهو أن الآخرة .

خير وأبقى وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إما لضعف علمه ويقينه ، وإما لاستيلاء الشهوة في الحال عليه ، وكونه مقهورا في يد الشيطان وإما لاغتراره ، بمواعيد الشيطان في التسويف يوما بعد يوم إلى أن يختطفه الموت ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت .


(وبالترك تبين زوال الرغبة ولذلك قيل لابن المبارك) عبد الله - رحمه الله تعالى - (يا زاهد) ، فأنكر على القائل (فقال: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز) أي: هو حقيق أن يسمى زاهدا (إذ جاءته الدنيا راغمة) أي: صاغرة ذليلة (فتركها) وزهد عنها (وأما أنا ففي ماذا زهدت؟) ولفظ القوت: وقد كان مالك بن دينار يقول: إذ قيل له: إنك زاهد قال: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز جاءته الدنيا وملكها فتزهد فيها، فأما أنا في أي شيء زهدت؟ اهـ .

فهذا ما يتعلق بالحال بقي الكلام على طرفيه العلم والعمل فقال: (وأما العلم الذي هو ثمر هذا الحال فهو العلم بكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى المأخوذ) ، وهذا (كعلم التاجر بأن العوض خير من البيع يرغب فيه، وما لم يتحقق هذا العلم لا يتصور أن تزول الرغبة عن المبيع، فكذلك من عرف أن) ما عندكم ينفد و (ما عند الله باق، وأن الآخرة خير وأبقى، أي: لذاتها في أنفسها وأبقى) بالإضافة إلى لذات الدنيا .

وفي قوله تعالى: ما عندكم ينفد وما عند الله باق إشارة حسنة حيث أضاف الدنيا ليذلنا بها; لأنا أهل الغنى، وليزهدنا فيها زهدنا في أنفسنا الأمارة بالسوء، وأضاف الآخرة إلى الآخر الأعلى ليعزنا ويشرفنا إليها; لأنه أهل البقاء، فخص بها أهله إذ منحها البقاء والإيمان بهذه المعرفة واجب; لأنه من عقود الإيمان بالله، ثم مثل للذات الآخرة مثالا في عالم الملك فقال: (كما تكون الجواهر) واللآلئ (خيرا من الثلج، وهي أبقى كما يكون الجوهر أبقى من الثلج ولا يعسر على مالك الثلج بيعه بالجواهر واللآلئ، فهكذا مثال الدنيا والآخرة، فالدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض، والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له بقدر قوة اليقين، والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة) بخساسة الدنيا وقذارتها وفنائها، ونفاسة الآخرة وشرفها وبقائها (تقوي [ ص: 320 ] الرغبة في البيع والمعاملة حتى إن من قوي يقينه يبيع نفسه وماله كما قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) فلما اشتراها باعوها .

فالعبد إذا باع نفسه وماله من الله تعالى وخرج من هواه إلى سبيل مولاه، فهو من الزاهدين، وهذا كما قال تعالى: ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى فإذا كان العوض واحدا هو الجنة ذكر في المعنيين كان بيع النفس والمال وإخراجها لله - عز وجل - بمعنى النهي عن الهوى فيهما الذي هو الحياة الدنيا، وهو اقتناؤه للنفس، وحبس النفس عليه، أعني المال، فاستبدال ذلك بضده من إخراج الهوى من النفس، وإدخال الفقر على المال هو الزهد في الدنيا، إذا ليس ذلك من أمر النفس الأمارة بالسوء; لأنه نهاية الخير، فصار نهيا لها عن الهوى الذي هو اقتناء المال للجمع والمنع لمتعة النفس به، وهذا هو الدنيا بوصف النفس الأمارة بالسوء; لأن هذا سوء كله فمن كان بهذا الوصف فنفسه غير مرحومة لأمرها بالسوء، وإذا لم تكن مرحومة لم يكن صاحبها بائعا، وإذا لم يبعها لم تكن مشتراة .

(ثم بين أن صفقتهم رابحة، فقال تعالى: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ) فمن باع حياة نفسه وفرق مجموع ماله فاشتراه المولى الكريم منه فعوضه داره وأسكنه عنده في جواره، فقد ربحت صفقته واهتدى سبيله، فإيمان الزاهدين قد أمرهم بإخراج المال والنفس التي هي الهوى ولدخول اليقين على إيمان التصديق (فليس يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا القدر، وهو أن الآخرة خير وأبقى) وصفها بالخيرية لبقائها في المآل ومنحها وصفين من صفاته ليرغب فيها، كما قال: والله خير وأبقى فإذا شهد العبد بعين قلبه ويقين إيمانه ما صدق به مما علمه بفهم سمعه وإدراك خبره أن ما يفنى آخره كأنه لم يكن، وما يبقى آخره كأنه لم يزل، كان من المتفكرين في مثل هذه الآي المشاهدين لها، كما قال تعالى: كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة .

(وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إما لضعف علمه ويقينه، وإما لاستيلاء الشهوة في الحال عليه، وكونه مقهورا في يد الشيطان، وأما الاغترار بمواعيد الشيطان في التسويف يوما بعد يوم) وحينا بعد حين (إلى أن يختطفه الموت ولا يبقى إلا الحسرة بعد الفوت) ومن دامت غفلته عظمت في الآخرة حسرته وخسارته، ألم تسمع إلى قوله تعالى: أولئك هم الغافلون * لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون مع قوله: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة فهذه صفات الجاهلين وأخلاق نفوس المشركين لفقد حقيقة العلم ووجد عدم اليقين .

وبمعنى ما ذكرناه ذكرهم خالقهم فمن دخل في بعض مداخلهم ووقع به التهديد والوعيد والتخويف الشديد لهم في قوله مخبرا عنهم: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية، وقوله تعالى: ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون فما أعظم حسرة الفوت على من خسر ما ربحه الزاهدون بعد الموت .

التالي السابق


الخدمات العلمية