إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الباب الأول في النية .

وفيه بيان فضيلة النية وبيان حقيقة النية ، وبيان كون النية خيرا من العمل ، وبيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنفس ، وبيان خروج النية عن الاختيار .

بيان فضيلة النية .

قال الله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه والمراد بتلك الإرادة هي النية .

وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ولكل ، امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " .


(الباب الأول في النية، وفيه بيان فضيلة النية) من الكتاب والسنة، (وبيان حقيقة النية، وبيان كون النية خيرا من العمل، وبيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنفس، وبيان خروج النية عن الاختيار) .

(بيان فضيلة النية) :

(قال الله تعالى) مخاطبا لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ومعاتبا له: ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) أي: في مجامع أوقاتهم، أو: في طرف الليل والنهار ( يريدون وجهه ) أي: رضاه وطاعته .

قال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان الثوري، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص، قال: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم ابن مسعود، قال: كنا نستبق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ندنو إليه، فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هم بشيء، فنزلت ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية .

وقال صاحب الحلية: أنا أحمد بن محمد بن أحمد، حدثنا عبد الله بن شيرويه، حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك فإنهم وإنهم. قال: فكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما .

قال: فوقع في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما شاء الله، فحدث به نفسه، فأنزل الله تعالى
ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية
.

(والمراد بتلك الإرادة هي النية) أي: ينوون بدعائهم وجه الله تعالى وحده .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه") .

أخبرناه عمر بن أحمد بن عقيل الحسني قال: أخبرنا عبد الله بن سالم، أخبرنا محمد بن العلاء الحافظ، أخبرنا علي بن يحيى، أخبرنا يوسف بن عبد الله الحسني، ثنا محمد بن عبد الرحمن الحافظ، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا عبد الرحيم بن الحسين الحافظ، أخبرنا محمد بن محمد بن إبراهيم، أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم، أخبرنا عبد الوهاب بن علي وعبد الرحمن بن أحمد العمري والمبارك بن معطوش قالوا: أخبرنا هبة الله بن محمد، أخبرنا محمد بن محمد بن إبراهيم البزاز، أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي، أخبرنا عبد الله بن روح المدائني، ومحمد بن رمح البزاز قالا: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول، فذكره .

أخرجه الأئمة الستة; فأخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير، وابن ماجه عن أبي بكر بن شيبة [ ص: 5 ] كلاهما عن يزيد بن هارون، فوقع بدلا لهما عاليا بدرجتين، واتفق عليه الشيخان من رواية مالك وحماد بن زيد وابن عيينة وعبد الوهاب الثقفي .

وأخرجه البخاري وأبو داود من رواية الثوري، ومسلم من طريق الليث وابن المبارك وأبي خالد الأحمر وحفص بن غياث، والترمذي من رواية عبد الوهاب الثقفي، والنسائي من طريق مالك وحماد بن زيد وابن المبارك وأبي خالد الأحمر، وابن ماجه أيضا من رواية الليث، عشرتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري .

أورده البخاري في سبع مواضع من صحيحه في بدء الوحي، والإيمان، والنكاح، والهجرة، وترك الحيل، والعتق، والنذور. ومسلم في الجهاد، وأبو داود في الطلاق، والنسائي في الإيمان، وابن ماجه في الزهد .

وهذا الحديث من أفراد الصحيح؛ لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من حديث عمر، ولا عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم التميمي، ولا عن التميمي إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري .

قال أبو بكر البزار في مسنده: لا نعلم يروى هذا الكلام إلا عن عمر بن الخطاب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الإسناد .

وقال: الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في أنه لم يصح مسندا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا من رواية عمر، اهـ. هذا هو المشهور .

وقد روي من طرق أخرى غير طريق عمر، وفي كل منها مقال .

منها: من طريق أبي سعيد الخدري، رواه الدارقطني وابن عساكر، كلاهما في غرائب مالك، والخطابي في معالم السنن من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، وهو غلط من أبي رواد، قاله الدارقطني .

ومنها: من طريق أبي هريرة، رواه الرشيد العطار في بعض تخاريجه، وهو وهم أيضا .

ومنها: من طريق أنس، رواه ابن عساكر من رواية يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أنس، وقال: هذا حديث غريب جدا، والمحفوظ حديث عمر . اهـ .

والمحفوظ من حديث أنس ما رواه البيهقي من رواية عبد الله بن المثنى الأنصاري قال: حدثني بعض أهل بيتي عن أنس، فذكر حديثا فيه " أنه لا عمل لمن لا نية له " الحديث .

ومنها: من طريق علي، رواه أحمد بن ياسر الحباني في نسخته من طريق أهل البيت، إسنادها ضعيف .

وأما من تابع علقمة عليه فذكر أبو أحمد الحاكم، أن موسى بن عقبة رواه عن نافع وعلقمة، وأما من تابع يحيى بن سعيد عليه فقد رواه الحاكم في تاريخ نيسابور من رواية عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، أورده في ترجمة أحمد بن ناصر بن زياد، وقال: إنه غلط فيه، وإنما هو عن يحيى بن سعيد لا عبد ربه بن سعيد .

وذكر الدارقطني أنه رواه حجاج بن أرطأة، عن محمد بن إبراهيم، وأنه رواه سهل بن صقير، عن الدراوردي وابن عيينة وأنس بن عياض، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن محمد بن إبراهيم، ووهم سهل على هؤلاء الثلاثة وغيرهم عن يحيى بن سعيد .

وقال النووي : هو حديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله .

قال: وليس متواترا لفقد شرط التواتر في أوله .

رواه عن يحيى بن سعيد أكثر من مائتي إنسان، أكثرهم أئمة، ثم إن هذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام حتى قيل فيه: إنه ثلث العلم، وقيل: ربعه، وقيل: خمسه .

وكونه ثلث العلم روي عن الشافعي وأحمد، وكونه ربعه عن أبي داود، وروي عنه أيضا كونه خمسه .

قال ابن دقيق العيد : لا بد من حذف المضاف، واختلف الفقهاء في تقديره، فالذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال بالنيات أو ما يقاربه، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال بالنيات أو ما يقاربه، وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى .

قال: وقد يقدرونه: إنما اعتبار الأعمال بالنيات .

وقال قاضي القضاة الحنفية شمس الدين السروجي في شرح الهداية: إن التقدير ثوابها لا صحتها؛ لأنه الذي يطرد؛ فإن كثيرا من الأعمال يوجد ويعتبر شرعا بدونها، ولأن إضمار الثواب متفق على إرادته؛ لأنه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فكان ما ذهبنا إليه أقل إضمارا فهو أولى، ولأن إضمار الجواز والصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد وهو ممتنع، ولأن العامل في قوله: "بالنية" مقدر بإجماع النحاة، ولا يجوز أن يتعلق بالأعمال؛ لأنها رفع بالابتداء، فيبقى بلا خبر، فلا يجوز، فالمقدر: إما مجزئة، أو صحيحة، أو مثيبة، ومثيبة أولى بالتقدير لوجهين:

أحدهما: أن عند عدم [ ص: 6 ] النية لا يبطل أصل العمل، وعلى إضمار الصحة والإجزاء يبطل فلا يبطل بالشك .

الثاني: أن قوله: "ولكل امرئ ما نوى" يدل على الثواب والأجر؛ لأن الذي له إنما هو الثواب، وأما العمل فعليه. انتهى .

وهذا قد رده الزين العراقي في شرح التقريب، وقال: فيه نظر من وجوه .

أحدها: أنه لا حاجة إلى إضمار محذوف من الصحة أو الكمال أو الثواب؛ إذ الإضمار خلاف الأصل، وإنما المراد حقيقة العمل الشرعي، فلا يحتاج حينئذ إلى إضمار، وأيضا فلا بد من إضمار شيء يتعلق به الجار والمجرور، فلا حاجة لإضمار مضاف؛ لأن تعليل الإضمار أولى، فيكون التقدير: إنما الأعمال وجودها بالنية، ويكون المراد الأعمال الشرعية .

والثاني: أن قوله: إن تقدير الثواب أقل إضمارا؛ لأنه يلزم من انتفاء الصحة انتفاء الثواب دون العكس، فلا نسلم أن فيه تقليل الإضمار؛ لأن المحذوف واحد، ولا يلزم من تقدير الصحة تقدير ما يترتب على نفيها من نفي الثواب، ووجوب الإعادة، وغير ذلك .

فلا يحتاج إلى أن يقدر: إنما صحة الأعمال والثواب وسقوط القضاء -مثلا- بالنية، بل المقدر واحد، وإن ترتب على ذلك الواحد شيء آخر فلا يلزم تقديره .

والثالث: أن قوله: إن تقدير الصحة يؤدي إلى نسخ الكتاب بخبر الواحد، فإن أراد به أن الكتاب دال على صحة العمل بغير نية لكون النية لم تذكر في الكتاب، فهذا ليس بنسخ، وأيضا فالثواب مذكور في الكتاب في العمل، ولم تذكر النية على أن الكتاب ذكرت فيه نية العمل في قوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فهذا القصد هو النية، ولو سلم له أن فيه نسخ الكتاب بخبر الواحد فلا مانع من ذلك عند أكثر أهل الأصول .

والرابع: أن قوله: إن تقدير الصحة يبطل العمل ولا يبطل الشك ليس بجيد، بل إذا تيقنا شغل الذمة بوجوب العمل لم نسقطه بالشك، ولا تبرأ الذمة إلا بتعيين، فحمله على الصحة أولى لتيقن البراءة به .

والخامس: أن قوله: إن الذي له إنما هو الثواب، وأما العمل فعليه، والأحسن في التقدير أن لا يقدر حذف مضاف، فإنه لا حاجة إليه، ولكن يقدر بشيء يتعلق به الجار والمجرور، فإنه لا بد من تقديره كما تقدم، فتقديره: إنما الأعمال وجودها بالنية، ونفي الحقيقة أولى، والمراد نفي العمل الشرعي، وإن وجد صورة الفعل في الظاهر فليس بشرعي عند عدم النية. والله أعلم. اهـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية