صفحة جزء
121 - ( فصل )

ومن طرق الأحكام : الحكم بالقرعة ، قال تعالى : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذا يختصمون } قال قتادة : " كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل ، فاقترعوا عليها بسهامهم ، أيهم يكفلها ، فقرع زكريا ، وكان زوج أختها ، فضمها إليه " .

وروي نحوه عن مجاهد وقال ابن عباس : " لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى ، وهم يكتبون الوحي ، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها " وهذا متفق عليه بين أهل التفسير .

وقال تعالى : { وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين } يقول تعالى : فقارع ، فكان من المغلوبين .

فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم ، وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه } . [ ص: 246 ]

وفي " الصحيحين " أيضا عن عائشة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه } .

وفي " صحيح مسلم " عن عمران بن حصين : { أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ، ثم أقرع بينهم : فأعتق اثنين ، وأرق أربعة ، وقال له قولا شديدا } .

وفي " صحيح البخاري " عن أبي هريرة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين ، فسارعوا إليه ، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين : أيهم يحلف } .

وفي " سنن أبي داود " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أكره اثنان على اليمين ، أو استحباها ، فليستهما عليها }

وفي رواية أحمد : { إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها } . وفيه أيضا { أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس لواحد منهما بينة ، فقال : استهما على اليمين ما كان ، أحبا ذلك أو كرها }

. وفي " الصحيحين " عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت : { أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما ، لم تكن لهما بينة إلا دعواهما ، فقال : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا ، فإنما أقطع له قطعة من النار } . ورواه أبو داود في " السنن " وفيه : { فبكى الرجلان ، وقال كل واحد منهما : حقي لك ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما ، وتوخيا الحق ، ثم استهما ، ثم تحالا } .

فهذه السنة - كما ترى - قد جاءت بالقرعة ، كما جاء بها الكتاب ، وفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ، قال البخاري في صحيحه " : " ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع [ ص: 247 ] بينهم سعد " .

وقد صنف أبو بكر الخلال مصنفا في القرعة ، وهي في " جامعه " ، فذكر مقاصده .

قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد : القرعة جائزة .

وقال يعقوب بن بختان : سئل أبو عبد الله عن القرعة ، ومن قال إنها قمار ؟ قال : إن كان ممن سمع الحديث : فهذا كلام رجل سوء يزعم أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قمار ، ، ؟

وقال المروذي : قلت لأبي عبد الله : إن ابن أكثم يقول : إن القرعة قمار ، قال : هذا قول رديء خبيث ، ثم قال : كيف ؟ وقد يحكمون هم بالقرعة في وقت إذا قسمت الدار ، ولم يرضوا ، قالوا : يقرع بينهم ، وهو يقول : لو أن رجلا له أربع نسوة فطلق إحداهن ، وتزوج خامسة ، ولم يدر أيتهن التي طلق ؟ قال : يورثهن جميعا ، ويأمرهن أن يعتددن جميعا ، وقد ورث من لا ميراث لها ، وقد أمر أن تعتد من لا عدة عليها ، والقرعة تصيب الحق ، فعلها النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال أبو الحارث : كتبت إلى أبي عبد الله أسأله ، فقلت : إن بعض الناس ينكر القرعة ، ويقول : هي قمار اليوم ، ويقول : هي منسوخة ؟ فقال أبو عبد الله : من ادعى أنها منسوخة ، فقد كذب وقال الزور ، القرعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرع في ثلاثة مواضع : أقرع بين الأعبد الستة ، وأقرع بين نسائه لما أراد السفر ، وأقرع بين رجلين تدارآ في دابة ، وهي في القرآن في موضعين . قلت : يريد أنه أقرع بنفسه في ثلاثة مواضع ، وإلا فأحاديث القرعة أكثر وقد تقدم ذكرها .

قال : وهم يقولون إذا اقتسموا الدار والأرضين : أقرع بين القوم ، فأيهم أصابته القرعة : كان له ما أصاب من ذلك ، يجبر عليه .

وقال الأثرم : إن أبا عبد الله ذكر القرعة واحتج بها ، وبينها ، وقال : إن قوما يقولون : القرعة قمار ، ثم قال أبو عبد الله : هؤلاء قوم جهلوا ، فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنن .

قال الأثرم : وذكرت له أنا حديث الزبير في الكفن ، فقال : حديث أبي الزناد ؟ فقلت : نعم .

قال أبو عبد الله .

قال أبو الزناد : يتكلمون في القرعة وقد ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه .

وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله قال في قوله تعالى : { فساهم فكان من المدحضين } [ ص: 248 ] أي أقرع ، فوقعت القرعة عليه .

قال : وسمعت أبا عبد الله يقول : القرعة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاؤه ، فمن رد القرعة فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاءه وفعله ، ثم قال : سبحان الله لمن قد علم بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم ويفتي بخلافه ، ، قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقال : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } .

قال حنبل : وقال عبد الله بن الزبير الحميدي : من قال بغير القرعة فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته التي قضى بها وقضى بها أصحابه بعده .

وقال في رواية الميموني : في القرعة خمس سنن ، حديث أم سلمة : { إن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث وأشياء درست بينهم ، فأقرع بينهم } وحديث أبي هريرة - حين تداريا في دابة - فأقرع بينهما ، وحديث الأعبد الستة ، وحديث أقرع بين نسائه ، وحديث علي .

وقد ذكر أبو عبد الله من فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ابن الزبير ، وابن المسيب ، ثم تعجب من أصحاب الرأي وما يردون من ذلك .

قال الميموني : وقال لي أبو عبيد القاسم بن سلام - وذاكرني أمر القرعة فقال : أرى أنها من أمر النبوة ، وذكر قوله تعالى : { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } وقوله : { فساهم } .

وقال أحمد ، في رواية الفضل بن عبد الصمد : القرعة في كتاب الله ، والذين يقولون : القرعة قمار قوم جهال ، ثم ذكر أنها في السنة ، وكذلك قال في رواية ابنه صالح : أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع ، وهي في القرآن في موضعين .

وقال أحمد في رواية المروذي : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن عروة .

قال : أخبرني ، أبي الزبير { أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى ، حتى كادت أن تشرف على القتلى ، قال : فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم ، فقال : المرأة ، المرأة .

قال الزبير : فتوهمت أنها أمي صفية ، قال : فخرجت أسعى ، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى قال : فلهزت في صدري - وكانت امرأة جلدة وقالت : إليك عني ، لا أم لك ، قال فقلت : إن [ ص: 249 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك ، فرجعت وأخرجت ثوبين معها ، فقالت : هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة ، فقد بلغني مقتله ، فكفنوه فيهما ، قال : فجئت بالثوبين ليكفن فيهما حمزة ، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل ، قد فعل به كما فعل بحمزة ، قال : فوجدنا غضاضة : أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له ، قلنا : لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب ، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر ، فأقرعنا بينهما فكفنا كل واحد في الثوب الذي طار له
} .

وقال في رواية صالح : وحديث الأجلح عن الشعبي عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم ، وهو مختلف فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية