سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
الباب السابع

في تواضعه صلى الله عليه وسلم

قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين [الشعراء : 215] يعني لين جانبك ، وأرفق بهم ، أمره الله تبارك وتعالى بالتواضع ، واللين ، والرفق لفقراء المؤمنين ، وغيرهم من المسلمين .

وروى أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا ، وابن سعد عن عائشة ، وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس ، ومعه جبريل عليه السلام ، إذ انشق أفق السماء ، فأقبل جبريل يدنو من الأرض ، ويدخل بعضه في بعض ، ويتضاءل ، فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي لفظ : إن الله سبحانه تعالى أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة ، ما هبط على نبي قبلي ، ولا يهبط على أحد بعدي ، وهو إسرافيل عليه السلام ، فقال : «السلام عليك يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام ، أنا رسول ربك إليك ، أمرني أن أخيرك : إن شئت نبيا عبدا ، وإن شئت نبيا ملكا» ، فنظرت إلى جبريل عليه السلام كالمستشير ، فأشار إلي جبريل بيده ، أن تواضع ، فقلت ، «بل نبيا عبدا ، يا عائشة لو قلت : نبيا ملكا ، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا» ، قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول : «آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد» للحديث طرق تأتي في باب زهده صلى الله عليه وسلم .

وروى ابن سعد عن حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال : كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين ، كان لا يدعوه أحمر ، ولا أسود ، إلا أجابه ، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها ، فيرمي بها إلى فيه ، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة ، وكان يركب الحمار عريا ، ليس عليه شيء .

وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه .

وروى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي فقال : لم لبست هذا يا رسول الله ؟ فقال : «ويحك ، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر» .

وروى أبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 32 ] أخذ بيد مجذوم ، فأدخله معه في القصعة ، ثم قال له : «كل باسم الله ، وثقة بالله ، وتوكلا عليه» .

وروى ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي ، عن عبد الرحمن بن جبر الخزاعي قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مع أصحابه إذ أخذ رجل منهم ، فستره بثوب ، فلما رأى ما عليه ، رفع رأسه ، فإذا هو علاه قبلي ستر ، فقال : «مه» فأخذ الثوب ، فوضعه ، وقال : «إنما أنا بشر مثلكم» .

وروى الحارث بن أبي أسامة ، عن يزيد الرقاشي رضي الله تعالى عنه قال : حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم ، وقال : «اللهم حجة مبرورة ، لا رياء فيها ولا سمعة» .

وروى بقي بن مخلد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقود راحلته ، ويمشي هنيهة .

وروى أيضا عنه قال : ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط ، ولا حملت معه طنفسة .

وروى ابن الأعرابي عن أبي المثنى الأملوكي رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام يمشون على العصا ، يتوكئون عليها؛ تواضعا لله عز وجل .

وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ، ويردف بعده ، ويجيب دعوة المملوك .

وروى الحاكم عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ، ويلبس الصوف ، ويعقل الشاة ، ويأتي مدعاة الضعيف .

وروى البخاري عن البزار رضي الله تعالى عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب ، وقد وارى التراب بياض إبطه . [ ص: 33 ]

وروى الدارمي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ، ويقل اللغو ، ويطيل الصلاة ، ويقصر الخطبة ، ولا يأنف ، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما» .

وروى الخرائطي عنه أيضا قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف ، والأرملة ، فيفرغ لهم من حاجاتهم .

وروى الإمام أحمد ، وأبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا ، ولا يطأ عقبه رجلان .

وروى أبو الشيخ عن ابن عباس ، وابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنهم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، ويعقل الشاة ، ويجيب دعوة المملوك ، زاد أنس : ويقول : «لو دعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي إلي كراع لقبلت» .

وروى الخطيب في الرواية عن مالك عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد إلى أي طعام دعا ، ويقول : «لو دعيت إلى كراع لأجبت» .

وروى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ، ويعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويأتي دعوة المملوك ، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف ، على إكاف من ليف .

وروى الترمذي -وصححه- والبيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه وعن أمه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام .

وروى الإمام أحمد في الزهد ، وابن عساكر -وقال هذا حديث مرسل- وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال : والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 34 ] تغلق دونه الأبواب ، ولا يقوم دونه الحجاب ، ولا يغدى عليه بالجفان ، ولا يراح بها عليه ، ولكنه كان بارزا ، من أراد أن يلقى نبي الله صلى الله عليه وسلم لقيه ، كان يجلس على الأرض ، ويطعم ويلبس الغليظ ، ويركب الحمار ، ويردف خلفه ، ويلعق يده .

وروى ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم رجلا فأرعد ، فقال : «هون عليك؛ فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .

وروى ابن ماجه عن عبد الله بن بسر قال : أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فجثا على ركبتيه ، فأكل ، فقال أعرابي : يا رسول الله ما هذه الجلسة ؟ فقال : «إن الله عز وجل جعلني عبدا كريما ، ولم يجعلني جبارا عنيدا» .

وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كانت امرأة في عقلها شيء ، قالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : «يا أم فلان انظري أي الطرق شئت» قال : «أقضي لك حاجتك» ، فقام معها يناجيها ، حتى قضت حاجتها .

وروى أبو بكر الشافعي وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق ، ومعه ناس من أصحابه ، فتعرضت له امرأة فقالت : يا رسول الله لي إليك حاجة ، فقال : «يا أم فلان اجلسي في أدنى نواحي السكك ، حتى أجلس إليك ، ففعلت ، فجلس إليها ، حتى قضى حاجتها» .

وروى ابن أبي شيبة عن يعقوب بن يزيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة .

وروى البخاري في الأدب عن عدي بن حاتم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر .

وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما ينزع يده من يدها ، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة في الحاجة .

[ ص: 35 ] وروى عبد بن حميد عن عدي بن حاتم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد فقال القوم : هذا عدي ، وجئت بغير أمان ولا كتاب ، فلما دفعت إليه أخذ بيدي ، وقد كان قال قبل ذلك : إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي ، قال : فقام معي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا : لنا إليك حاجة ، فقام معهما ، حتى قضى حاجتهما .

وروى أبو ذر الهروي في دلائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المساكين ، ويسأل عنهم .

وروى الإمام أحمد والبخاري وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن كانت الأمة من المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنطلق بها في حاجتها فلم ينزع يده من يدها ، حتى تذهب به حيث شاءت .

وروى ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه عن عكرمة رحمه الله تعالى : قال العباس رحمه الله تعالى : يا رسول الله إني أراهم قد آذوك ، وآذاك غبارهم ، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبي وينازعوني ثوبي ، ويؤذيني غبارهم ، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم» .

وروى أبو داود ، وابن ماجه ، وابن حبان ، وقاسم بن ثابت ، والطبراني عن أبي سعيد وغيره من الصحابة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بغلام -زاد الطبراني أنه معاذ بن جبل- يسلخ شاة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تنح حتى أريك ، فإني لا أراك تحسن تسلخ» ، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بين الجلد واللحم ، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط ، ثم قال : «يا غلام هكذا فاسلخ» .

وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاءه خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء ، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه ، فربما جاءوه في الغداة الباردة ، فيغمس يده فيها .

وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبيان ، فسلم عليهم . [ ص: 36 ]

وروى البخاري في الأدب المفرد عن حسنة بن خالد وسواء بن خالد رضي الله تعالى عنهما : أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعالج حائطا ، أو بناء له .

وروى الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ، وذقنه على رحله متخشعا .

وروى أبو يعلى عنه قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استشرفه الناس ، فوضع رأسه على رحله متخشعا .

وروى الحاكم عن عبد الله بن بريدة رضي الله تعالى عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمار ، وهو يمشي ، فقال له : اركب يا رسول الله ، فقال : «إن صاحب الدابة أحق بصدر دابته ، إلا أن تجعله لي» ، قال : قد فعلت .

وروى الإمام أحمد وابن عدي وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه ، ويخصف نعله ، وفي رواية لأحمد : ويرقع دلوه ، وعنده أيضا : يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه .

وروى البخاري في الأدب عن حسنة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعالج حائطا له ، فأعاناه ، وهذا يتعين حمله على أوقاته ، فإنه ثبت أنه لو كان له خدم كفوه ، فتارة يكون بنفسه ، وتارة يكون بغيره ، وتارة يكون بالمشاركة .

وروى ابن عدي عن أنس أنه سئل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، ويلبس الصوف ، وإن أهدي إليه كراع قبل ، وإن دعي إلى ذراع أجاب ، وكان يعتقل البعير .

وروى أبو داود عنه رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهنأ بعيرا له .

وروى ابن أبي شيبة عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الجنازة ، ويعود المريض ، ويجيب دعوة المملوك ، ويركب الحمار ، وكان يوم خيبر على حمار ، ويوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف ، وتحته إكاف من لبد .

[ ص: 37 ] وروى ابن المبارك عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس للأكل محتفزا .

وروى أبو داود الطيالسي عن ابنة خباب أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ، فاعتقلها فحلبها ، وقال : «ائتني بأعظم إناء لكم» فأتيناه بجفنة العجين ، فحلب فيها حتى ملأها ، قال : «اشربوا أنتم وجيرانكم» .

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله بن عبد العزيز العمري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما استكفى أهله من شيء لم يكن يستكفيهم صب الوضوء لنفسه ، وإعطاءه المسكين بيده ، ويكفيهم إجانة الثياب .

وروى أبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت يا رسول الله : كل جعلني الله فداك متكئا ، فإنه أهون عليك ، قال : «آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد» .

وروى الإمام البخاري في الأدب ، وفي الصحيح عن أنس قال : ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم ولد ، والنبي صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له .

وروى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو الشيخ عن الأسود بن يزيد قال : سألت عائشة رضي الله تعالى عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان بشرا من البشر ، يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخيط ثوبه ، ويخدم نفسه ، ويخصف نعله ، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم ، ويكون في مهنة أهله ، يعني : خدمة أهله ، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة .

وروى ابن سعد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا فقال عنده ، فلما أبردوا جاءوا بحمار لهم عربي قطوف ، قال : فغطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقطيفة عليه ، وركب ، فأراد سعد أن يردف ابنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد الحمار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن كنت باعثه فاحمله بين يدي» ، قال : بل خلفك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أهل الدابة هم أولى بصدرها» ، فقال سعد : لا أبعثه معك ، ولكن رد الحمار ، قال : «فنرده وهو هملاج فريغ لا يسابق» . [ ص: 38 ]

وروى الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل وصافحه ، لا ينزع يده من يده ، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع ، ولا يصرف وجهه عن وجهه ، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له .

وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت ، أكثر ما يعمل الخياطة .

وروى أبو ذر الهروي في دلائله ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس والإمام أحمد ، وأبو يعلى ، وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وابن عساكر عن عائشة ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، وجبريل معه على الصفا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد كف سويق ، ولا سفة من دقيق» ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن يسمع هدة من السماء أفظعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمر الله تعالى القيامة أن تقوم ؟ » فقال : لا ، ولكن هذا إسرافيل نزل إليك حيث سمع الله تعالى كلامك ، هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة .

وفي حديث ابن عباس : فأقبل جبريل يدنو من الأرض ، ويدخل بعضه في بعض ، ويتضاءل ، قال أبو هريرة : فأتاه إسرافيل .

وفي حديث عائشة : أتاني ملك حجزته تساوي الكعبة ، فقال : إن الله تعالى سمع كلامك ، وأمرني أن أعرض عليك -إن أحببت- أن أسير معك جبال تهامة زمردا ، وياقوتا ، وذهبا ، وفضة ، فعلت ، فإن شئت نبيا ملكا ، وإن شئت نبيا عبدا ، فالتفت إلى جبريل كالمستشير له ، فأشار إليه جبريل بيده أن تواضع لربك ، فعرفت أنه ناصح لي ، وقلت : بل نبيا عبدا ، ثلاث مرات ، فشكر لي ربي عز وجل ذلك ، فقال «أنت أول من تشق عنه الأرض ، وأول شافع» قال ابن عباس وعائشة : فما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما متكئا حتى لقي ربه .

وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام ، فقلت : ألا تأكل وأنت متكئ ، أهون عليك ؟ قالت فأصغى بجبهته ، حتى كاد يمسح بها الأرض ، قال : «آكل كما يأكل العبد ، وأنا جالس» ، فما رأيته أكل متكئا حتى مضى لسبيله .

وروى الدارقطني في الأفراد ، وابن عساكر عن الحسن عن أنس رضي الله تعالى عنه [ ص: 39 ] قال : لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف واحتذى المخصوف ، وأكل بشعا ، ولبس خشنا ، قال الحسن : البشع غليظ الشعير .

وروى ابن عساكر عن حبيب بن أبي ثابت رحمه الله تعالى قال : قلت لأنس بن مالك : حدثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تحدثنا عن غيره ، وفي رواية عنه قال : سئل أنس عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كان يلبس الصوف ، ويركب الحمار ، ويجلس على الأرض ، ويعتقل العنز ، ويحلبها ، ويأكل على الأرض ، ويقول : إنما أنا عبد ، أجلس كما يجلس العبد . وسمعته يقول : «لو دعيت إلى كراع لقبلت» وثيابه عليها ، قال : وأحسبه : ينام عليها .

وروى ابن عدي بسند ضعيف عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل متكئا ، فقال : المتكأ من النعمة ، فاستوى قاعدا ، فما رؤي بعد ذلك متكئا ، وقال : «إنما أنا عبد ، آكل كما يأكل العبد ، وأشرب كما يشرب العبد» .

وروى ابن عساكر -من طرق حسنها- عن يحيى بن سعد الأنصاري ، عن علي بن حسين رضي الله تعالى عنهما مرسلا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو اتخذنا لك شيئا ترتفع عليه ، تكلم الناس ، فقال : «لا أزال بينكم تطئون عقبي ، حتى يكون الله عز وجل يرفعني ، ثم قال : لا ترفعوني فوق حقي ، فإن الله عز وجل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا» .

قال يحيى : فذكرتها لسعيد بن المسيب فقال : صدق ، إن كان نبيا عبدا ، وبعدما اتخذه نبيا كان عبدا .

وروى أيضا عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف ، ويركب الحمار ، ويأتي مدعاة الضعيف .

وروى أيضا وأبو يعلى عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف ، ويركب الحمار ، ويخصف النعل ، ويرقع القميص ، ويقول : «من رغب عن سنتي فليس مني» .

وروى أيضا وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ، ويتبع الجنازة ، ويركب الحمار ، ويردف معه ، ويجيب دعوة المسكين ، ويوضع طعامه بالأرض ، ويلعق أصابعه ، وكان يوم خيبر على حمار ، ويوم بني قريظة والنضير على حمار خطامه من حبل من ليف ، وتحته إكاف من ليف .

وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث [ ص: 40 ] خصال ليست في الجبارين ، كان يركب الحمار ، وكان لا يدعوه أسود ولا أحمر إلا أجابه ، وكان يجد التمرة ملقاة فيلقيها في فيه .

وروى ابن عساكر عنه قال : كان العبد الأسود يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ بيده ، فيمضي به حيث شاء ، إلا قفل بحاجته .

وروى البخاري وابن عساكر عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود مرضانا ، ويتبع جنائزنا ، ويواسينا بالقليل والكثير .

وروى البيهقي وابن عساكر عن سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ، ويزورهم ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم .

وروى ابن منده وابن عساكر عن عاصم بن حدرة قال : ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ، ولا مشي معه بسواد ، وما كان له بواب قط .

وروى ابن عساكر -وقال : هذا حديث غريب جدا من حديث جرير- عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بين يديه ، فاستقبلته رعدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هون عليك؛ فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .

وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : قلت لأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : ما ترى فيما قد ظهر من هذا الملبس والمشرب والمطعم ؟ فقال : يا ابن أخي : كل لله ، واشرب لله ، والبس لله ، واركب لله ، وكل شيء من ذلك دخله هوى ومدح ، أو مباهاة ، أو رياء ، أو سمعة ، فهو معصية وسرف ، وتعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج في بيته ، كان يعلف الناضح ، ويعتقل البعير ، ويقم البيت ، ويحلب الشاة ، ويخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويأكل مع خادمه ، ويطحن عنه إذا دعاه ، ويشتري التمر من السوق ، فلا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده ، أو يجعله في طرف ثوبه ، فيبلغ به إلى أهله ، ويصافح الغني والفقير والصغير والكبير ، ويسلم مبتدئا على من استقبله من صغير أو كبير ، أسود أو أحمر ، حر أو عبد ، من أهل الصلاة لا يستحي أن يجيب إذا دعي ، وإن كان أشعث أغبر ، ولا يحقر ما دعي إليه ، وإن لم يجد إلا حشفة لا يرفع عشاء لغداء ، ولا غداء لعشاء ، يصبح سبعة أبياته ما بات لهم كسرة خبز ، ولا شربة سويق ، هين المؤنة ، لين الخلق ، [ ص: 41 ] كريم الطبيعة ، جميل المعاشرة ، طليق الوجه ، بسام من غير ضحك ، محزون من غير عبوس ، شديد من غير عنف ، متواضع في غير مذلة ، جواد في غير سرف ، رحيم بكل ذي قربى ومسلم ، رقيق القلب ، دائم الإطراق ، لم يبشم قط من شبع ، ولم يمد يده إلى طمع قط .

قال أبو سلمة : فحدثت عائشة بهذا الحديث كله عن أبي سعيد فقالت : ما أخطأك حرفا ، ولقد قصر ، أما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمتلئ شبعا قط ، ولم يبث إلى أحد شكوى ، وإن كانت الفاقة أحب إليه من اليسار والغنى ، إن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فلا يمنعه ذلك من صيام يومه ، ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ، ورغد عيشها من مشارقها ومغاربها لفعل ، قالت : وربما بكيت رحمة مما أراني له من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول : نفسي لك الفداء ، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ، ويمنع الجوع ، ويقول : يا عائشة : إن إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا ، فمضوا على حالهم ، فقدموا على ربهم ، فأكرم مثابهم ، وأجزل ثوابهم ، أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فالصبر أياما يسيرة أحب إلي مما ينقص حظي غدا في الآخرة ، فما من شيء أحب إلي من اللحوق إلى إخواني .

في سنده ميسرة بن عبد ربه .

التالي السابق


الخدمات العلمية