الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السابع

                                                                                                                                                                                                                              في تواضعه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين [الشعراء : 215] يعني لين جانبك ، وأرفق بهم ، أمره الله تبارك وتعالى بالتواضع ، واللين ، والرفق لفقراء المؤمنين ، وغيرهم من المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا ، وابن سعد عن عائشة ، وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس ، ومعه جبريل عليه السلام ، إذ انشق أفق السماء ، فأقبل جبريل يدنو من الأرض ، ويدخل بعضه في بعض ، ويتضاءل ، فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي لفظ : إن الله سبحانه تعالى أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة ، ما هبط على نبي قبلي ، ولا يهبط على أحد بعدي ، وهو إسرافيل عليه السلام ، فقال : «السلام عليك يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام ، أنا رسول ربك إليك ، أمرني أن أخيرك : إن شئت نبيا عبدا ، وإن شئت نبيا ملكا» ، فنظرت إلى جبريل عليه السلام كالمستشير ، فأشار إلي جبريل بيده ، أن تواضع ، فقلت ، «بل نبيا عبدا ، يا عائشة لو قلت : نبيا ملكا ، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا» ، قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول : «آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد» للحديث طرق تأتي في باب زهده صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال : كانت في رسول الله خصال ليست في الجبارين ، كان لا يدعوه أحمر ، ولا أسود ، إلا أجابه ، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها ، فيرمي بها إلى فيه ، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة ، وكان يركب الحمار عريا ، ليس عليه شيء .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي فقال : لم لبست هذا يا رسول الله ؟ فقال : «ويحك ، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 32 ] أخذ بيد مجذوم ، فأدخله معه في القصعة ، ثم قال له : «كل باسم الله ، وثقة بالله ، وتوكلا عليه» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي ، عن عبد الرحمن بن جبر الخزاعي قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مع أصحابه إذ أخذ رجل منهم ، فستره بثوب ، فلما رأى ما عليه ، رفع رأسه ، فإذا هو علاه قبلي ستر ، فقال : «مه» فأخذ الثوب ، فوضعه ، وقال : «إنما أنا بشر مثلكم» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحارث بن أبي أسامة ، عن يزيد الرقاشي رضي الله تعالى عنه قال : حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم ، وقال : «اللهم حجة مبرورة ، لا رياء فيها ولا سمعة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى بقي بن مخلد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقود راحلته ، ويمشي هنيهة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أيضا عنه قال : ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط ، ولا حملت معه طنفسة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن الأعرابي عن أبي المثنى الأملوكي رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام يمشون على العصا ، يتوكئون عليها؛ تواضعا لله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ، ويردف بعده ، ويجيب دعوة المملوك .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ، ويلبس الصوف ، ويعقل الشاة ، ويأتي مدعاة الضعيف .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن البزار رضي الله تعالى عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب ، وقد وارى التراب بياض إبطه . [ ص: 33 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى الدارمي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ، ويقل اللغو ، ويطيل الصلاة ، ويقصر الخطبة ، ولا يأنف ، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الخرائطي عنه أيضا قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف ، والأرملة ، فيفرغ لهم من حاجاتهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، وأبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا ، ولا يطأ عقبه رجلان .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الشيخ عن ابن عباس ، وابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنهم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، ويعقل الشاة ، ويجيب دعوة المملوك ، زاد أنس : ويقول : «لو دعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي إلي كراع لقبلت» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الخطيب في الرواية عن مالك عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد إلى أي طعام دعا ، ويقول : «لو دعيت إلى كراع لأجبت» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار ، ويعود المريض ، ويشهد الجنازة ، ويأتي دعوة المملوك ، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف ، على إكاف من ليف .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي -وصححه- والبيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه وعن أمه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد في الزهد ، وابن عساكر -وقال هذا حديث مرسل- وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال : والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 34 ] تغلق دونه الأبواب ، ولا يقوم دونه الحجاب ، ولا يغدى عليه بالجفان ، ولا يراح بها عليه ، ولكنه كان بارزا ، من أراد أن يلقى نبي الله صلى الله عليه وسلم لقيه ، كان يجلس على الأرض ، ويطعم ويلبس الغليظ ، ويركب الحمار ، ويردف خلفه ، ويلعق يده .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم رجلا فأرعد ، فقال : «هون عليك؛ فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن ماجه عن عبد الله بن بسر قال : أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فجثا على ركبتيه ، فأكل ، فقال أعرابي : يا رسول الله ما هذه الجلسة ؟ فقال : «إن الله عز وجل جعلني عبدا كريما ، ولم يجعلني جبارا عنيدا» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كانت امرأة في عقلها شيء ، قالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : «يا أم فلان انظري أي الطرق شئت» قال : «أقضي لك حاجتك» ، فقام معها يناجيها ، حتى قضت حاجتها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو بكر الشافعي وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق ، ومعه ناس من أصحابه ، فتعرضت له امرأة فقالت : يا رسول الله لي إليك حاجة ، فقال : «يا أم فلان اجلسي في أدنى نواحي السكك ، حتى أجلس إليك ، ففعلت ، فجلس إليها ، حتى قضى حاجتها» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة عن يعقوب بن يزيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع غبار المسجد بجريدة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في الأدب عن عدي بن حاتم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي ، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما ينزع يده من يدها ، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة في الحاجة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 35 ] وروى عبد بن حميد عن عدي بن حاتم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد فقال القوم : هذا عدي ، وجئت بغير أمان ولا كتاب ، فلما دفعت إليه أخذ بيدي ، وقد كان قال قبل ذلك : إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي ، قال : فقام معي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا : لنا إليك حاجة ، فقام معهما ، حتى قضى حاجتهما .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو ذر الهروي في دلائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المساكين ، ويسأل عنهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والبخاري وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن كانت الأمة من المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنطلق بها في حاجتها فلم ينزع يده من يدها ، حتى تذهب به حيث شاءت .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه عن عكرمة رحمه الله تعالى : قال العباس رحمه الله تعالى : يا رسول الله إني أراهم قد آذوك ، وآذاك غبارهم ، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبي وينازعوني ثوبي ، ويؤذيني غبارهم ، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود ، وابن ماجه ، وابن حبان ، وقاسم بن ثابت ، والطبراني عن أبي سعيد وغيره من الصحابة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بغلام -زاد الطبراني أنه معاذ بن جبل- يسلخ شاة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تنح حتى أريك ، فإني لا أراك تحسن تسلخ» ، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بين الجلد واللحم ، فدخس بها حتى ترادت إلى الإبط ، ثم قال : «يا غلام هكذا فاسلخ» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاءه خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء ، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه ، فربما جاءوه في الغداة الباردة ، فيغمس يده فيها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبيان ، فسلم عليهم . [ ص: 36 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في الأدب المفرد عن حسنة بن خالد وسواء بن خالد رضي الله تعالى عنهما : أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعالج حائطا ، أو بناء له .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ، وذقنه على رحله متخشعا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى عنه قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استشرفه الناس ، فوضع رأسه على رحله متخشعا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم عن عبد الله بن بريدة رضي الله تعالى عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمار ، وهو يمشي ، فقال له : اركب يا رسول الله ، فقال : «إن صاحب الدابة أحق بصدر دابته ، إلا أن تجعله لي» ، قال : قد فعلت .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد وابن عدي وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه ، ويخصف نعله ، وفي رواية لأحمد : ويرقع دلوه ، وعنده أيضا : يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في الأدب عن حسنة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعالج حائطا له ، فأعاناه ، وهذا يتعين حمله على أوقاته ، فإنه ثبت أنه لو كان له خدم كفوه ، فتارة يكون بنفسه ، وتارة يكون بغيره ، وتارة يكون بالمشاركة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عدي عن أنس أنه سئل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، ويلبس الصوف ، وإن أهدي إليه كراع قبل ، وإن دعي إلى ذراع أجاب ، وكان يعتقل البعير .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود عنه رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهنأ بعيرا له .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الجنازة ، ويعود المريض ، ويجيب دعوة المملوك ، ويركب الحمار ، وكان يوم خيبر على حمار ، ويوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف ، وتحته إكاف من لبد .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 37 ] وروى ابن المبارك عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس للأكل محتفزا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود الطيالسي عن ابنة خباب أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ، فاعتقلها فحلبها ، وقال : «ائتني بأعظم إناء لكم» فأتيناه بجفنة العجين ، فحلب فيها حتى ملأها ، قال : «اشربوا أنتم وجيرانكم» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله بن عبد العزيز العمري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما استكفى أهله من شيء لم يكن يستكفيهم صب الوضوء لنفسه ، وإعطاءه المسكين بيده ، ويكفيهم إجانة الثياب .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت يا رسول الله : كل جعلني الله فداك متكئا ، فإنه أهون عليك ، قال : «آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام البخاري في الأدب ، وفي الصحيح عن أنس قال : ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم ولد ، والنبي صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو الشيخ عن الأسود بن يزيد قال : سألت عائشة رضي الله تعالى عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان بشرا من البشر ، يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخيط ثوبه ، ويخدم نفسه ، ويخصف نعله ، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم ، ويكون في مهنة أهله ، يعني : خدمة أهله ، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا فقال عنده ، فلما أبردوا جاءوا بحمار لهم عربي قطوف ، قال : فغطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقطيفة عليه ، وركب ، فأراد سعد أن يردف ابنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرد الحمار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن كنت باعثه فاحمله بين يدي» ، قال : بل خلفك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أهل الدابة هم أولى بصدرها» ، فقال سعد : لا أبعثه معك ، ولكن رد الحمار ، قال : «فنرده وهو هملاج فريغ لا يسابق» . [ ص: 38 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل وصافحه ، لا ينزع يده من يده ، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع ، ولا يصرف وجهه عن وجهه ، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت ، أكثر ما يعمل الخياطة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو ذر الهروي في دلائله ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس والإمام أحمد ، وأبو يعلى ، وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وابن عساكر عن عائشة ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، وجبريل معه على الصفا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد كف سويق ، ولا سفة من دقيق» ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن يسمع هدة من السماء أفظعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمر الله تعالى القيامة أن تقوم ؟ » فقال : لا ، ولكن هذا إسرافيل نزل إليك حيث سمع الله تعالى كلامك ، هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن عباس : فأقبل جبريل يدنو من الأرض ، ويدخل بعضه في بعض ، ويتضاءل ، قال أبو هريرة : فأتاه إسرافيل .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث عائشة : أتاني ملك حجزته تساوي الكعبة ، فقال : إن الله تعالى سمع كلامك ، وأمرني أن أعرض عليك -إن أحببت- أن أسير معك جبال تهامة زمردا ، وياقوتا ، وذهبا ، وفضة ، فعلت ، فإن شئت نبيا ملكا ، وإن شئت نبيا عبدا ، فالتفت إلى جبريل كالمستشير له ، فأشار إليه جبريل بيده أن تواضع لربك ، فعرفت أنه ناصح لي ، وقلت : بل نبيا عبدا ، ثلاث مرات ، فشكر لي ربي عز وجل ذلك ، فقال «أنت أول من تشق عنه الأرض ، وأول شافع» قال ابن عباس وعائشة : فما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما متكئا حتى لقي ربه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام ، فقلت : ألا تأكل وأنت متكئ ، أهون عليك ؟ قالت فأصغى بجبهته ، حتى كاد يمسح بها الأرض ، قال : «آكل كما يأكل العبد ، وأنا جالس» ، فما رأيته أكل متكئا حتى مضى لسبيله .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الدارقطني في الأفراد ، وابن عساكر عن الحسن عن أنس رضي الله تعالى عنه [ ص: 39 ] قال : لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف واحتذى المخصوف ، وأكل بشعا ، ولبس خشنا ، قال الحسن : البشع غليظ الشعير .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر عن حبيب بن أبي ثابت رحمه الله تعالى قال : قلت لأنس بن مالك : حدثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تحدثنا عن غيره ، وفي رواية عنه قال : سئل أنس عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كان يلبس الصوف ، ويركب الحمار ، ويجلس على الأرض ، ويعتقل العنز ، ويحلبها ، ويأكل على الأرض ، ويقول : إنما أنا عبد ، أجلس كما يجلس العبد . وسمعته يقول : «لو دعيت إلى كراع لقبلت» وثيابه عليها ، قال : وأحسبه : ينام عليها .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عدي بسند ضعيف عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل متكئا ، فقال : المتكأ من النعمة ، فاستوى قاعدا ، فما رؤي بعد ذلك متكئا ، وقال : «إنما أنا عبد ، آكل كما يأكل العبد ، وأشرب كما يشرب العبد» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر -من طرق حسنها- عن يحيى بن سعد الأنصاري ، عن علي بن حسين رضي الله تعالى عنهما مرسلا قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو اتخذنا لك شيئا ترتفع عليه ، تكلم الناس ، فقال : «لا أزال بينكم تطئون عقبي ، حتى يكون الله عز وجل يرفعني ، ثم قال : لا ترفعوني فوق حقي ، فإن الله عز وجل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا» .

                                                                                                                                                                                                                              قال يحيى : فذكرتها لسعيد بن المسيب فقال : صدق ، إن كان نبيا عبدا ، وبعدما اتخذه نبيا كان عبدا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أيضا عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف ، ويركب الحمار ، ويأتي مدعاة الضعيف .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أيضا وأبو يعلى عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف ، ويركب الحمار ، ويخصف النعل ، ويرقع القميص ، ويقول : «من رغب عن سنتي فليس مني» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أيضا وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ، ويتبع الجنازة ، ويركب الحمار ، ويردف معه ، ويجيب دعوة المسكين ، ويوضع طعامه بالأرض ، ويلعق أصابعه ، وكان يوم خيبر على حمار ، ويوم بني قريظة والنضير على حمار خطامه من حبل من ليف ، وتحته إكاف من ليف .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث [ ص: 40 ] خصال ليست في الجبارين ، كان يركب الحمار ، وكان لا يدعوه أسود ولا أحمر إلا أجابه ، وكان يجد التمرة ملقاة فيلقيها في فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر عنه قال : كان العبد الأسود يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ بيده ، فيمضي به حيث شاء ، إلا قفل بحاجته .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري وابن عساكر عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود مرضانا ، ويتبع جنائزنا ، ويواسينا بالقليل والكثير .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي وابن عساكر عن سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ، ويزورهم ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن منده وابن عساكر عن عاصم بن حدرة قال : ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط ، ولا مشي معه بسواد ، وما كان له بواب قط .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر -وقال : هذا حديث غريب جدا من حديث جرير- عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بين يديه ، فاستقبلته رعدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هون عليك؛ فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : قلت لأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : ما ترى فيما قد ظهر من هذا الملبس والمشرب والمطعم ؟ فقال : يا ابن أخي : كل لله ، واشرب لله ، والبس لله ، واركب لله ، وكل شيء من ذلك دخله هوى ومدح ، أو مباهاة ، أو رياء ، أو سمعة ، فهو معصية وسرف ، وتعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج في بيته ، كان يعلف الناضح ، ويعتقل البعير ، ويقم البيت ، ويحلب الشاة ، ويخصف النعل ، ويرقع الثوب ، ويأكل مع خادمه ، ويطحن عنه إذا دعاه ، ويشتري التمر من السوق ، فلا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده ، أو يجعله في طرف ثوبه ، فيبلغ به إلى أهله ، ويصافح الغني والفقير والصغير والكبير ، ويسلم مبتدئا على من استقبله من صغير أو كبير ، أسود أو أحمر ، حر أو عبد ، من أهل الصلاة لا يستحي أن يجيب إذا دعي ، وإن كان أشعث أغبر ، ولا يحقر ما دعي إليه ، وإن لم يجد إلا حشفة لا يرفع عشاء لغداء ، ولا غداء لعشاء ، يصبح سبعة أبياته ما بات لهم كسرة خبز ، ولا شربة سويق ، هين المؤنة ، لين الخلق ، [ ص: 41 ] كريم الطبيعة ، جميل المعاشرة ، طليق الوجه ، بسام من غير ضحك ، محزون من غير عبوس ، شديد من غير عنف ، متواضع في غير مذلة ، جواد في غير سرف ، رحيم بكل ذي قربى ومسلم ، رقيق القلب ، دائم الإطراق ، لم يبشم قط من شبع ، ولم يمد يده إلى طمع قط .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو سلمة : فحدثت عائشة بهذا الحديث كله عن أبي سعيد فقالت : ما أخطأك حرفا ، ولقد قصر ، أما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمتلئ شبعا قط ، ولم يبث إلى أحد شكوى ، وإن كانت الفاقة أحب إليه من اليسار والغنى ، إن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فلا يمنعه ذلك من صيام يومه ، ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ، ورغد عيشها من مشارقها ومغاربها لفعل ، قالت : وربما بكيت رحمة مما أراني له من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول : نفسي لك الفداء ، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ، ويمنع الجوع ، ويقول : يا عائشة : إن إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا ، فمضوا على حالهم ، فقدموا على ربهم ، فأكرم مثابهم ، وأجزل ثوابهم ، أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فالصبر أياما يسيرة أحب إلي مما ينقص حظي غدا في الآخرة ، فما من شيء أحب إلي من اللحوق إلى إخواني .

                                                                                                                                                                                                                              في سنده ميسرة بن عبد ربه .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية