الباب الخامس في حكم أفعاله الدنيوية -صلى الله عليه وسلم- 
قال القاضي : وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم الدنيوية فحكمه فيها من توقي المعاصي والمكروهات ما قد قدمناه ، ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه . 
وكله غير قادح في النبوة ، بلى ، إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد والصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات والقرب على ما بينا؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورته ، وما يقيم رمق جسمه ، وفيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، ويقيم شريعته ، ويسوس أمته ، وما كان فيما بينه وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ، أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، وكل هذا لاحق بصالح أعماله ، منتظم في زاكي وظائف عباداته ، وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الأحوال ، ويعد للأمور أشباهها ، فيركب -في تصرفه لما قرب- الحمار ، وفي أسفاره الراحلة ، ويركب البغلة في معارك الحرب دليلا على الثبات ، ويركب الخيل ويعدها ليوم الفزع وإجابة الصارخ . 
وكذلك في لباسه وسائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ومصالح أمته . 
وكذلك يفعل الفعل من أمور الدنيا مساعدة لأمته وسياسة وكراهية لخلافها ، وإن كان قد يرى غيره خيرا منه ، كما يترك الفعل لهذا ، وقد يرى فعله خيرا منه . وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه؛ كخروجه من 
المدينة  لأحد ، وكان مذهبه التحصن بها ، وتركه قتل المنافقين ، وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، ورعاية للمؤمنين من قرابتهم ، وكراهة لأن يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب 
قريش  وتعظيمهم لتغييرها ، وحذرا من نفار قلوبهم لذلك ، وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله ، 
فقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة  في الحديث الصحيح : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=669112لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم . 
ويفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيرا منه؛ كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من 
قريش ،  
وقوله : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=656688لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي . ويبسط وجهه للكافر والعدو رجاء استئلافه . 
ويصبر للجاهل ، ويقول : إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره ، ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ودين ربه .  
[ ص: 14 ] 
ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، ويتسمت في ملئه ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، وحتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ، ويتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويضحك مما يضحكون منه ، قد وسع الناس بشره وعدله ، لا يستفزه الغضب ، ولا يقصر عن الحق ، ولا يبطن على جلسائه ، 
يقول : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين . 
((فإن قلت)) : فما معنى قوله 
 nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة  رضي الله عنها في الداخل عليه : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=655572بئس ابن العشيرة . 
فلما دخل ألان له القول وضحك معه ، فلما سألته عن ذلك قال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=655594إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره . 
وكيف جاز أن يظهر له خلاف ما يبطن ، ويقول في ظهره ما قال ؟ 
فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم كان استئلافا لمثله ، وتطييبا لنفسه ، ليتمكن إيمانه ، ويدخل في الإسلام بسببه أتباعه ، ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . 
ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . 
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ 
قال 
صفوان :  nindex.php?page=hadith&LINKID=662972لقد أعطاني وهو أبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي . 
وقوله فيه : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=655572بئس ابن العشيرة- هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ، ليحذر حاله ، ويحترز منه ، ولا يوثق بجانبه كل الثقة ، ولا سيما وكان مطاعا متبوعا . 
ومثل هذا إذا كان لضرورة ودفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزا ، بل واجبا في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة والمزكين في الشهود . 
فإن قيل : فما معنى المعضل الوارد 
في حديث 
بريرة  من قوله صلى الله عليه وسلم 
 nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة ،  وقد أخبرته أن موالي 
بريرة  أبوا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال لها صلى الله عليه وسلم : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=659771اشتريها واشترطي لهم الولاء . 
ففعلت ، ثم قام خطيبا ، فقال : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=652530ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل 
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمرها بالشرط لهم ، وعليه باعوها ، ولولاه -والله أعلم- لما باعوها من
 nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ،  كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله صلى الله عليه وسلم ، وهو قد حرم الغش والخديعة . 
فاعلم -أكرمك الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ، ولتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشتر لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق .  
[ ص: 15 ] 
الحديث ، ومع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع «لهم» بمعنى «عليهم» ، قال الله تعالى : 
أولئك لهم اللعنة وقال : 
وإن أسأتم فلها 
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، ويكون قيام النبي صلى الله عليه وسلم ووعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك . 
ووجه ثان : 
أن قوله صلى الله عليه وسلم : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=13493اشترطي لهم الولاء ، 
ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية والإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعهم بعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم قبل أن 
الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع . 
وإلى هذا ذهب 
 nindex.php?page=showalam&ids=14277الداودي  وغيره ، وتوبيخ النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا . 
الوجه الثالث : أن معنى قوله : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=13493اشترطي لهم الولاء ، أي : أظهري لهم حكمه ، وبيني سنته بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك وموبخا على مخالفة ما تقدم منه فيه . 
فإن قيل : فما معنى فعل 
يوسف  عليه السلام بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله وأخذه باسم سرقتها ، وما جرى على إخوته في ذلك ، وقوله تعالى : 
إنكم لسارقون ، ولم يسرقوا . 
فاعلم -أكرمك الله- أن الآية تدل على أن فعل 
يوسف  كان عن أمر الله؛ لقوله تعالى : 
كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم  . 
فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه . 
وأيضا فإن 
يوسف  كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من وفقه ورغبته ، وعلى يقين من عقبى الخير له به ، وإزاحة السوء والمضرة عنه بذلك . 
وأما قوله : 
أيتها العير إنكم لسارقون ، فليس من قول 
يوسف .  فيلزم عليه جواب لحل شبهه . 
ولعل قائله إن حسن له التأويل كائنا من كان ظن على صورة الحال ذلك . 
وقد قيل : قال ذلك لفعلهم قبل 
بيوسف  وبيعهم له . وقيل : غير هذا . ولا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم يأت أنهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، ولا يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم .  
[ ص: 16 ]