الباب الخامس في حكم أفعاله الدنيوية -صلى الله عليه وسلم-
قال القاضي : وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم الدنيوية فحكمه فيها من توقي المعاصي والمكروهات ما قد قدمناه ، ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه .
وكله غير قادح في النبوة ، بلى ، إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد والصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات والقرب على ما بينا؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورته ، وما يقيم رمق جسمه ، وفيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، ويقيم شريعته ، ويسوس أمته ، وما كان فيما بينه وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ، أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، وكل هذا لاحق بصالح أعماله ، منتظم في زاكي وظائف عباداته ، وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الأحوال ، ويعد للأمور أشباهها ، فيركب -في تصرفه لما قرب- الحمار ، وفي أسفاره الراحلة ، ويركب البغلة في معارك الحرب دليلا على الثبات ، ويركب الخيل ويعدها ليوم الفزع وإجابة الصارخ .
وكذلك في لباسه وسائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ومصالح أمته .
وكذلك يفعل الفعل من أمور الدنيا مساعدة لأمته وسياسة وكراهية لخلافها ، وإن كان قد يرى غيره خيرا منه ، كما يترك الفعل لهذا ، وقد يرى فعله خيرا منه . وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه؛ كخروجه من
المدينة لأحد ، وكان مذهبه التحصن بها ، وتركه قتل المنافقين ، وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، ورعاية للمؤمنين من قرابتهم ، وكراهة لأن يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب
قريش وتعظيمهم لتغييرها ، وحذرا من نفار قلوبهم لذلك ، وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله ،
فقال
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة في الحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=669112لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم .
ويفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيرا منه؛ كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من
قريش ،
وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656688لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي . nindex.php?page=treesubj&link=30973ويبسط وجهه للكافر والعدو رجاء استئلافه .
ويصبر للجاهل ، ويقول : إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره ، ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ودين ربه .
[ ص: 14 ]
ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، ويتسمت في ملئه ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، وحتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ، ويتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويضحك مما يضحكون منه ، قد وسع الناس بشره وعدله ، لا يستفزه الغضب ، ولا يقصر عن الحق ، ولا يبطن على جلسائه ،
يقول : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .
((فإن قلت)) : فما معنى قوله
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة رضي الله عنها في الداخل عليه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655572بئس ابن العشيرة .
فلما دخل ألان له القول وضحك معه ، فلما سألته عن ذلك قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655594إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره .
وكيف جاز أن يظهر له خلاف ما يبطن ، ويقول في ظهره ما قال ؟
فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم كان استئلافا لمثله ، وتطييبا لنفسه ، ليتمكن إيمانه ، ويدخل في الإسلام بسببه أتباعه ، ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام .
ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟
قال
صفوان : nindex.php?page=hadith&LINKID=662972لقد أعطاني وهو أبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي .
وقوله فيه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655572بئس ابن العشيرة- هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ، ليحذر حاله ، ويحترز منه ، ولا يوثق بجانبه كل الثقة ، ولا سيما وكان مطاعا متبوعا .
ومثل هذا إذا كان لضرورة ودفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزا ، بل واجبا في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة والمزكين في الشهود .
فإن قيل : فما معنى المعضل الوارد
في حديث
بريرة من قوله صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة ، وقد أخبرته أن موالي
بريرة أبوا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال لها صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=659771اشتريها واشترطي لهم الولاء .
ففعلت ، ثم قام خطيبا ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652530ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمرها بالشرط لهم ، وعليه باعوها ، ولولاه -والله أعلم- لما باعوها من
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله صلى الله عليه وسلم ، وهو قد حرم الغش والخديعة .
فاعلم -أكرمك الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ، ولتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشتر لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق .
[ ص: 15 ]
الحديث ، ومع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع «لهم» بمعنى «عليهم» ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=25أولئك لهم اللعنة وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7وإن أسأتم فلها
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، ويكون قيام النبي صلى الله عليه وسلم ووعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .
ووجه ثان :
أن قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=13493اشترطي لهم الولاء ،
ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية والإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعهم بعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم قبل أن
nindex.php?page=treesubj&link=4844_31545_26204الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .
وإلى هذا ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14277الداودي وغيره ، وتوبيخ النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا .
الوجه الثالث : أن معنى قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=13493اشترطي لهم الولاء ، أي : أظهري لهم حكمه ، وبيني سنته بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك وموبخا على مخالفة ما تقدم منه فيه .
فإن قيل : فما معنى فعل
يوسف عليه السلام بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله وأخذه باسم سرقتها ، وما جرى على إخوته في ذلك ، وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70إنكم لسارقون ، ولم يسرقوا .
فاعلم -أكرمك الله- أن الآية تدل على أن فعل
يوسف كان عن أمر الله؛ لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=76كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم .
فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .
وأيضا فإن
يوسف كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من وفقه ورغبته ، وعلى يقين من عقبى الخير له به ، وإزاحة السوء والمضرة عنه بذلك .
وأما قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70أيتها العير إنكم لسارقون ، فليس من قول
يوسف . فيلزم عليه جواب لحل شبهه .
ولعل قائله إن حسن له التأويل كائنا من كان ظن على صورة الحال ذلك .
وقد قيل : قال ذلك لفعلهم قبل
بيوسف وبيعهم له . وقيل : غير هذا . ولا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم يأت أنهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، ولا يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم .
[ ص: 16 ]
الْبَابُ الْخَامِسُ فِي حُكْمِ أَفْعَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ الْقَاضِي : وَأَمَّا أَفْعَالُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّنْيَوِيَّةُ فَحُكْمُهُ فِيهَا مِنْ تَوَقِّي الْمَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَاتِ مَا قَدْ قَدَّمْنَاهُ ، وَمِنْ جَوَازِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ فِي بَعْضِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَكُلُّهُ غَيْرُ قَادِحٍ فِي النُّبُوَّةِ ، بَلَى ، إِنَّ هَذَا فِيهَا عَلَى النُّدُورِ ، إِذْ عَامَّةُ أَفْعَالِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالصَّوَابِ ، بَلْ أَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ إِذْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا لِنَفْسِهِ إِلَّا ضَرُورَتَهُ ، وَمَا يُقِيمُ رَمَقَ جِسْمِهِ ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ ذَاتِهِ الَّتِي بِهَا يَعْبُدُ رَبَّهُ ، وَيُقِيمُ شَرِيعَتَهُ ، وَيَسُوسُ أُمَّتَهُ ، وَمَا كَانَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَبَيْنَ مَعْرُوفٍ يَصْنَعُهُ ، أَوْ بِرٍّ يُوَسِّعُهُ ، أَوْ كَلَامٍ حَسَنٍ يَقُولُهُ أَوْ يَسْمَعُهُ ، أَوْ تَأَلُّفِ شَارِدٍ ، أَوْ قَهْرِ مُعَانِدٍ ، أَوْ مُدَارَاةِ حَاسِدٍ ، وَكُلُّ هَذَا لَاحِقٌ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِ ، مُنْتَظِمٌ فِي زَاكِي وَظَائِفِ عِبَادَاتِهِ ، وَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ فِي أَفْعَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَيُعِدُّ لِلْأُمُورِ أَشْبَاهَهَا ، فَيَرْكَبُ -فِي تَصَرُّفِهِ لِمَا قَرُبَ- الْحِمَارَ ، وَفِي أَسْفَارِهِ الرَّاحِلَةَ ، وَيَرْكَبُ الْبَغْلَةَ فِي مَعَارِكِ الْحَرْبِ دَلِيلًا عَلَى الثَّبَاتِ ، وَيَرْكَبُ الْخَيْلَ وَيُعِدُّهَا لِيَوْمِ الْفَزَعِ وَإِجَابَةِ الصَّارِخِ .
وَكَذَلِكَ فِي لِبَاسِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ بِحَسْبِ اعْتِبَارِ مَصَالِحِهِ وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْفِعْلَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مُسَاعَدَةً لِأُمَّتِهِ وَسِيَاسَةً وَكَرَاهِيَةً لِخِلَافِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ ، كَمَا يَتْرُكُ الْفِعْلَ لِهَذَا ، وَقَدْ يَرَى فِعْلَهُ خَيْرًا مِنْهُ . وَقَدْ يَفْعَلُ هَذَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مِمَّا لَهُ الْخِيَرَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْهِ؛ كَخُرُوجِهِ مِنَ
الْمَدِينَةِ لِأُحُدٍ ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ التَّحَصُّنَ بِهَا ، وَتَرْكِهِ قَتْلَ الْمُنَافِقِينَ ، وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ مُؤَالَفَةً لِغَيْرِهِمْ ، وَرِعَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ ، وَكَرَاهَةً لِأَنْ يَقُولَ النَّاسُ : إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَتَرْكِهِ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مُرَاعَاةً لِقُلُوبِ
قُرَيْشٍ وَتَعْظِيمِهِمْ لِتَغْيِيرِهَا ، وَحَذَرًا مِنْ نِفَارِ قُلُوبِهِمْ لِذَلِكَ ، وَتَحْرِيكِ مُتَقَدِّمِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ ،
فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=25لِعَائِشَةَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=669112لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ .
وَيَفْعَلُ الْفِعْلَ ثُمَّ يَتْرُكُهُ ، لِكَوْنِ غَيْرِهِ خَيْرًا مِنْهُ؛ كَانْتِقَالِهِ مِنْ أَدْنَى مِيَاهِ بَدْرٍ إِلَى أَقْرَبِهَا لِلْعَدُوِّ مِنْ
قُرَيْشٍ ،
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=656688لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ . nindex.php?page=treesubj&link=30973وَيَبْسُطُ وَجْهَهُ لِلْكَافِرِ وَالْعَدُوِّ رَجَاءَ اسْتِئْلَافِهِ .
وَيَصْبِرُ لِلْجَاهِلِ ، وَيَقُولُ : إِنَّ مِنْ شَرَارِ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ ، وَيَبْذُلُ لَهُ الرَّغَائِبَ لِيُحَبِّبَ إِلَيْهِ شَرِيعَتَهُ وَدِينَ رَبِّهِ .
[ ص: 14 ]
وَيَتَوَلَّى فِي مَنْزِلِهِ مَا يَتَوَلَّى الْخَادِمُ مِنْ مِهْنَتِهِ ، وَيَتَسَمَّتُ فِي مَلَئِهِ ، حَتَّى لَا يَبْدُوَ شَيْءٌ مِنْ أَطْرَافِهِ ، وَحَتَّى كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِ جُلَسَائِهِ الطَّيْرَ ، وَيَتَحَدَّثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بِحَدِيثِ أَوَّلِهِمْ ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ ، وَيَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ ، قَدْ وَسِعَ النَّاسَ بِشْرُهُ وَعَدْلُهُ ، لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ ، وَلَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ ، وَلَا يُبْطِنُ عَلَى جُلَسَائِهِ ،
يَقُولُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ .
((فَإِنْ قُلْتَ)) : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=25لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الدَّاخِلِ عَلَيْهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655572بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ .
فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ وَضَحِكَ مَعَهُ ، فَلَمَّا سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655594إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ .
وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ ، وَيَقُولُ فِي ظَهْرِهِ مَا قَالَ ؟
فَالْجَوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْتِئْلَافًا لِمِثْلِهِ ، وَتَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ ، لِيَتَمَكَّنَ إِيمَانُهُ ، وَيَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِهِ أَتْبَاعُهُ ، وَيَرَاهُ مِثْلُهُ فَيَنْجَذِبُ بِذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ .
وَمِثْلُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَدِّ مُدَارَاةِ الدُّنْيَا إِلَى السِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ .
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْلِفُهُمْ بِأَمْوَالِ اللَّهِ الْعَرِيضَةِ فَكَيْفَ بِالْكَلِمَةِ اللَّيِّنَةِ ؟
قَالَ
صَفْوَانُ : nindex.php?page=hadith&LINKID=662972لَقَدْ أَعْطَانِي وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى صَارَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيَّ .
وَقَوْلُهُ فِيهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=655572بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ- هُوَ غَيْرُ غَيْبَةٍ ، بَلْ هُوَ تَعْرِيفُ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ، لِيَحْذَرَ حَالَهُ ، وَيَحْتَرِزَ مِنْهُ ، وَلَا يُوثَقُ بِجَانِبِهِ كُلَّ الثِّقَةِ ، وَلَا سِيَّمَا وَكَانَ مُطَاعًا مَتْبُوعًا .
وَمِثْلُ هَذَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ بِغِيبَةٍ ، بَلْ كَانَ جَائِزًا ، بَلْ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَعَادَةِ الْمُحَدِّثِينَ فِي تَجْرِيحِ الرُّوَاةِ وَالْمُزَكِّينَ فِي الشُّهُودِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى الْمُعْضِلِ الْوَارِدِ
فِي حَدِيثِ
بَرِيرَةَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=showalam&ids=25لِعَائِشَةَ ، وَقَدْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ مَوَالِيَ
بَرِيرَةَ أَبَوْا بَيْعَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ ، فَقَالَ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=659771اشْتَرِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ .
فَفَعَلَتْ ، ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا ، فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=652530مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَمَرَهَا بِالشَّرْطِ لَهُمْ ، وَعَلَيْهِ بَاعُوهَا ، وَلَوْلَاهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لَمَا بَاعُوهَا مِنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ ، كَمَا لَمْ يَبِيعُوهَا قَبْلُ حَتَّى شَرَطُوا ذَلِكَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ قَدْ حَرَّمَ الْغِشَّ وَالْخَدِيعَةَ .
فَاعْلَمْ -أَكْرَمَكَ اللَّهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقَعُ فِي بَالِ الْجَاهِلِ مِنْ هَذَا ، وَلِتَنْزِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ مَا قَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ : قَوْلَهُ : اشْتَرِ لَهُمُ الْوَلَاءَ ، إِذْ لَيْسَتْ فِي أَكْثَرِ طُرُقِ .
[ ص: 15 ]
الْحَدِيثِ ، وَمَعَ ثَبَاتِهَا فَلَا اعْتِرَاضَ بِهَا ، إِذْ يَقَعُ «لَهُمْ» بِمَعْنَى «عَلَيْهِمْ» ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=25أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا
فَعَلَى هَذَا اشْتَرِطِي عَلَيْهِمُ الْوَلَاءَ لَكَ ، وَيَكُونُ قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْظُهُ لِمَا سَلَفَ مِنْ شَرْطِ الْوَلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ :
أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=13493اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ،
لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ ، لَكِنْ عَلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ شَرْطَهُ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ بَعْدَ بَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ قَبْلُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=4844_31545_26204الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : اشْتَرِطِي أَوْ لَا تَشْتَرِطِي ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ نَافِعٍ .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=14277الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَتَوْبِيخُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَقْرِيعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِمْ بِهِ قَبْلَ هَذَا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=13493اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ، أَيْ : أَظْهِرِي لَهُمْ حُكْمَهُ ، وَبَيِّنِي سُنَّتَهُ بِأَنَّ الْوَلَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَعْتَقَ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَامَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا ذَلِكَ وَمُوَبِّخًا عَلَى مُخَالَفَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى فِعْلِ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَخِيهِ ، إِذْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِهِ وَأَخَذَهُ بِاسْمِ سَرِقَتِهَا ، وَمَا جَرَى عَلَى إِخْوَتِهِ فِي ذَلِكَ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ، وَلَمْ يَسْرِقُوا .
فَاعْلَمْ -أَكْرَمَكَ اللَّهُ- أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ
يُوسُفَ كَانَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=76كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ ، كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ
يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ أَخَاهُ بِأَنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ ، فَكَانَ مَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا مِنْ وَفْقِهِ وَرَغْبَتِهِ ، وَعَلَى يَقِينٍ مِنْ عُقْبَى الْخَيْرِ لَهُ بِهِ ، وَإِزَاحَةِ السُّوءِ وَالْمَضَرَّةِ عَنْهُ بِذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=70أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ، فَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ
يُوسُفَ . فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ جَوَابٌ لِحَلِّ شُبَهِهِ .
وَلَعَلَّ قَائِلَهُ إِنْ حَسُنَ لَهُ التَّأْوِيلُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ظَنَّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ ذَلِكَ .
وَقَدْ قِيلَ : قَالَ ذَلِكَ لِفِعْلِهِمْ قَبْلُ
بِيُوسُفَ وَبَيْعِهِمْ لَهُ . وَقِيلَ : غَيْرُ هَذَا . وَلَا يَلْزَمُ أَنْ نُقَوِّلَ الْأَنْبِيَاءَ مَا لَمْ يَأْتِ أَنَّهُمْ قَالُوهُ ، حَتَّى يُطْلَبَ الْخَلَاصُ مِنْهُ ، وَلَا يَلْزَمَ الِاعْتِذَارُ عَنْ زَلَّاتِ غَيْرِهِمْ .
[ ص: 16 ]