سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
فصل

ومن بر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتوقيره بر آله وذريته وأزواجه وأمهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهم أجمعين- .

روى ابن جرير عن يزيد بن حبان ، عن زيد بن أرقم- رضي الله تعالى عنه- قال : قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطيبا بما يدعى حمى بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، إني أنتظر أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين ، أحدهما : كتاب الله ، فيه الهدى والصدق ، فاستمسكوا بكتاب الله .

ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، ثلاث مرات ، فقيل لزيد : ومن أهل بيته ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ فقال زيد : إن نساءه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة [بعده ، فقيل : ومن هم ؟ قال : هم آل العباس وآل جعفر وآل عقيل ، قيل : أكل هؤلاء يحرم الصدقة عليهم] ؟ قال : نعم .


ورواه أيضا عنه بلفظ : «إنما أنا بشر ، أوشك أن أدعى فأجيب ، ألا وإني تارك فيكم [ ص: 397 ] الثقلين ، أحدهما : كتاب الله ، حبل ممدود ، من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على الضلالة ، وأهل بيتي : أذكركم الله في أهل بيتي ، ثلاث مرات .

ورواه أيضا عنه بلفظ : «أنشدكم الله في أهل بيتي مرتين .

وروي عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- [لما نزلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا - وذلك في بيت أم سلمة- دعا فاطمة وحسنا وحسينا ، فجللهم بكساء ، وعلي خلف ظهره فجلله بكسائه ، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا]

وقد تقدم في أبواب ما يجب على الأنام كثير من ذلك .

قال بعض العلماء : معرفتهم ، وهي معرفة بمكانهم من النبي- صلى الله عليه وسلم- ، وإذا عرفهم بذلك ، عرف وجوب حقهم وحرمتهم بسببه .

وروى الترمذي وحسنه عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه- أن عمر- رضي الله تعالى عنه- فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمسمائة ، وفرض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف ، فقال عبد الله لأبيه : لما فضلت أسامة علي ؟ فو الله ما سبقني إلى مشهد قال : لأن زيدا كان أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أبيك ، وكان أسامة أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منك ، فآثرت حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حبي .

وقال الأوزاعي : دخلت بنت أسامة على عمر بن عبد العزيز ، ومعها مولى لها يقودها يمسك بيدها ، فقام إليها عمر ومشى إليها ، وجعل يدها بين يديه ، ويداه في ثيابه ، وأجلسها في مجلسه ، وجلس بين يديها ، وما ترك لها حاجة إلا قضاها .

ومنها : أن يجتنب الزائر لمس جدار المسجد ، وتقبيله ، والطواف به ، والصلاة عليه .

قال الإمام النووي : لا يجوز أن يطاف بقبره- صلى الله عليه وسلم- ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار قبره ، قاله الحلبي وغيره .

قال : ويكره مسحه باليد وتقبيله ، بل الأدب أن يبعد عنه ، كما يبعد عنه لو حضر في حياته ، هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه ، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء ، انتهى . [ ص: 398 ]

وفي «الإحياء» : مس المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود .

وقال الأقفهسي : قال الزعفراني - في كتابه : وضع اليد على القبر ومسه وتقبيله من البدع التي تنكر شرعا .

وروي أن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه- رأى رجلا وضع يده على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فنهاه ، وقال : وما كنا نعرف هذا» أي الدنو منه] وذكر غير واحد نحو ذلك ، وفي كتاب العلل والسؤالات لعبد الله ابن الإمام أحمد ، عن أبيه رواية أبي علي الصوان قال عبد الله : سألت أبي عن الرجل يمس منبر النبي- صلى الله عليه وسلم- ويتبرك بمسه ، ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك ، رجاء ثواب الله عز وجل قال : لا بأس .

وروى الإمام أحمد- بسند حسن- ، وأبو الحسن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله الخشني في «أخبار المدينة» عن داود بن أبي صالح قال : أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر ، فأخذ مروان برقبته ثم قال : هل تدري ما تصنع ؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب ، فقال : نعم ، إني لم آت الحجرات ، إنما جئت النبي- صلى الله عليه وسلم-

سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : « لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله » .

قال المطلب : وذلك أبو أيوب الأنصاري ، وتقدم في باب أدلة الزيارة ، أن ابن عساكر روى بسند جيد أن بلالا - رضي الله تعالى عنه- لما قدم من الشام لزيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- أتى القبر ، فجعل يبكي ويمرغ وجهه عليه .

وذكر الخطيب ابن جملة ، أن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما- كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف ، وأن بلالا وضع خده عليه أيضا- رضي الله تعالى عنه- .

قال : ولا شك أن الاستغراق في المحبة يحمل على الإذن في ذلك ، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم ، والناس يختلف مراتبهم في ذلك ، كما كانت تختلف في حياته ، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم ، بل يبادرون إليه ، وأناس فيهم أناة يتأخرون ، والكل محل خير .

وقال الحافظ : استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره .

فأما الآدمي فسبق في الأدب .

وأما غيره فنقل عن أحمد ، أنه سئل عن تقبيل منبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وقبره فلم ير به بأسا ، واستبعد بعض أتباعه صحته عنه ، قلت : نقل ذلك عنه ابنه عبد الله كما تقدم . [ ص: 399 ]

ونقل عن ابن أبي الصيف اليمني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف ، وأجزاء الحديث ، وقبور الصالحين . انتهى كلام الحافظ .

ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري ، أنه يجوز تقبيل الحجر ومسه ، قال : وعليه عمل العلماء الصالحين ، وينشد :


أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا     وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا

ومنها اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم ، وهو من البدع ، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم ، وأقبح منه تقبيل الأرض ، لم يفعله السلف الصالح ، والخير كله في اتباعهم ، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم .

قال ابن جماعة : وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه ، بل عجبي ممن أفتى بتحسين ذلك مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف .

التالي السابق


الخدمات العلمية