سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

[تتمة جماع أبواب المغازي التي غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة]

الباب العشرون في غزوة بني قريظة

تقدم في غزوة الخندق أنهم ظاهروا قريشا وأعانوهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أجدى ذلك عنهم شيئا وباءوا بغضب من الله ورسوله ، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة . قال الله سبحانه وتعالى : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم - أي أعانوهم - من أهل الكتاب من صياصيهم - أي حصونهم - وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا .

وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا [الأحزاب 25 : 27] .

قال محمد بن عمر عن شيوخه : لما تفرق المشركون عن الخندق خافت بنو قريظة خوفا شديدا ، وقالوا : محمد يزحف إلينا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتالهم حتى جاءه جبريل يأمره به .

روى الإمام أحمد والشيخان - مختصرا - والبيهقي والحاكم في صحيحه مطولا عن عائشة ، وأبو نعيم ، والبيهقي من وجه آخر عنها ، وابن عائذ عن جابر بن عبد الله ، وابن سعد عن حميد بن هلال ، وابن جرير عن عبد الله بن أبي أوفى والبيهقي وابن سعد عن الماجشون ، والبيهقي عن عبيد الله بن كعب بن مالك ، وسعيد بن جبير وابن سعد عن يزيد بن الأصم ، ومحمد بن عمر عن شيوخه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع عن الخندق ، والمسلمون وقد عضهم الحصار ، فرجعوا مجهودين ، فوضعوا السلاح ، ووضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل بيت عائشة ودعا بماء فأخذ يغسل رأسه - قال ابن عقبة قد رجل أحد شقيه . قال محمد بن عمر :

غسل رأسه واغتسل ، ودعا بالمجمرة ليتبخر ، وقد صلى الظهر ، قالت عائشة : فسلم علينا رجل ونحن في البيت . قال محمد بن عمر : وقف موضع الجنائز ، فنادى عذيرك من محارب! فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزعا فوثب وثبة شديدة ، فخرج إليه ، وقمت في أثره أنظر من خلل الباب ، فإذا هو دحية الكلبي فيما كنت أرى - وهو ينفض الغبار عن وجهه ، وهو معتم ، وقال ابن إسحاق : معتجر بعمامة ، قال الماجشون - كما رواه أبو نعيم عنها ، سوداء من إستبرق ، مرخ من عمامته بين كتفيه ، على بغلة شهباء - وفي لفظ : فرس - عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج - قال الماجشون : أحمر - على ثناياه أثر الغبار ،

وفي رواية : قد عصب رأسه الغبار ، عليه لأمته . [ ص: 4 ]

فاتكأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عرف الدابة ، فقال : يا رسول الله ، ما أسرعتم ما حللتم ، عذيرك من محارب! عفا الله عنك ،
وفي لفظ : غفر الله لك ، أو قد وضعتم السلاح قبل أن نضعه ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «نعم قال : فو الله ما وضعناه ، وفي لفظ : «ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدو . وما رجعنا الآن إلا من طلب القوم حتى بلغنا حمراء الأسد - يعني الأحزاب - وقد هزمهم الله تعالى ، وإن الله - تعالى - يأمرك بقتال بني قريظة ، وأنا عامد إليهم بمن معي من الملائكة لأزلزل بهم الحصون ، فاخرج بالناس» .

قال حميد بن هلال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فإن في أصحابي جهدا فلو أنظرتهم أياما

قال جبريل : انهض إليهم ، فو الله لأدقنهم كدق البيض على الصفا لأضعضعنها ، فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار
. قال أنس - رضي الله عنه - فيما رواه البخاري : كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم - موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة . . انتهى .

قالت عائشة : فرجعت ، فلما دخل قلت يا رسول الله - من ذاك الرجل الذي كنت تكلمه ؟ قال : «ورأيته» ؟ قلت نعم ، قال ، «لمن تشبهت» ؟ قلت : بدحية بن خليفة الكلبي ، قال :

«ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة »
.

قال قتادة فيما رواه ابن عائذ : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم بعث يومئذ مناديا ينادي «يا خيل الله اركبي» وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأذن في الناس : «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة » .

وروى الشيخان عن ابن عمر والبيهقي عن عائشة ، والبيهقي عن الزهري وعن ابن عقبة ، والطبراني عن كعب بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : «عزمت عليكم ألا تصلوا صلاة العصر» .

ووقع في مسلم في حديث ابن عمر صلاة الظهر فأدرك بعضهم صلاة العصر ، وفي لفظ الظهر في الطريق ، فقال بعضهم : لا نصليها حتى نأتي بني قريظة ، إنا لفي عزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما علينا من إثم ، فصلوا العصر ببني قريظة حين وصلوها بعد غروب الشمس . وقال بعضهم : بل نصلي ، لم يرد منا أن ندع الصلاة ، فصلوا ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدا من الفريقين ، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب فدفع إليه لواءه ، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق ، فابتدره الناس . [ ص: 5 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية