صفحة جزء
باب ذكر ما جرى في سني الهجرة

ذكر ما جرى في السنة الأولى من الهجرة

قال مؤلف الكتاب: هي سنة أربع عشرة من البعثة ، وهي سنة أربع وثلاثين من ملك كسرى أبرويز ، وسنة تسع لهرقل .

وأول هذه السنة المحرم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما في المحرم بمكة لم يخرج منها ، وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالخروج إلى المدينة ، فخرجوا أرسالا في المحرم وقد كان جماعة خرجوا في ذي الحجة وصدروا المشركين يحتسبون بالاهتمام بأمره والتحيل له ، فاجتمعوا في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خافوه .

قال ابن إسحاق : فحدثني ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة يتشاورون فيها في أمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل ، [ ص: 46 ] فوقف على باب الدار ، فلما رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون ، وعسى أن لا يعدمكم منه رأي ونصح . قالوا: ادخل .

فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة ، من بني عبد شمس: عتبة ، وشيبة [ابنا ربيعة] . ومن بني أمية : أبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : [ طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل ] . ومن بني عبد الدار وقصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن بني أسد بن عبد العزى : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل بن هشام [ومن بني سهم ] نبيه ومنبه ابنا الحجاج . ومن بني جمح : أمية بن خلف . ومن كان معهم ، ومن غيرهم ممن لا يعد من قريش .

فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد كان ، وإنا والله لا نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه [من غيرنا] فأجمعوا فيه رأيا .

فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه بابا ، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله: كزهير ، والنابغة ، من الموت .

فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي ، والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه ، فوثبوا [عليكم] فانتزعوه من بين أيديكم . [ ص: 47 ]

فقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا ، فننفيه من بلدنا .

فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حسن حديثه ، وحلاوة منطقه ، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل بحي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم .

فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه .

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا فيكم ، ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد ، فيقتلونه ، فنستريح ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، ورضوا منا بالعقل فعقلناه لهم .

فقال الشيخ النجدي : القول ما قال هذا الرجل ، هذا الرأي لا أرى لكم غيره .

فتفرق القوم على ذلك وهم مجتمعون له ، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه . فلما كانت العتمة ، اجتمعوا على بابه ثم ترصدوه متى ينام فيثبون عليه: فلما رأى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مكانهم ، قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "نم على فراشي وتسج ببردي الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم" ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام . أخبرنا ابن الحصين قال: أخبرنا ابن المذهب قال: أخبرنا أبو بكر بن جعفر قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا [ ص: 48 ] معمر قال: أخبرني عثمان الجزري : أن مقسما مولى ابن عباس أخبره ، عن ابن عباس : في قوله تعالى: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك .

قال: تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم [وقال بعضهم: بل اقتلوه] وقال بعضهم: بل أخرجوه ، فأطلع الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، فبات المشركون يحرسون عليا ، يحسبونه النبي عليه السلام ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا رد الله مكرهم ، فقالوا: أين صاحبك ؟ قال: لا أدري . فاقتصوا أثره .
وقال محمد بن كعب القرظي : اجتمعوا على بابه ، فقالوا: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم ، ثم بعثتم بعد موتكم ، فجعل لكم جنان كجنان الأرض ، فإن لم تفعلوا ذلك كان لكم [فيه] ذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم ، فجعلت لكم نار تحرقون فيها .

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب ، ثم قال: "نعم أنا أقول ذلك" فنثر التراب على رءوسهم ، ولم يروا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يقرأ: يس إلى قوله: [ ص: 49 ] وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . ثم انصرف إلى حيث أراد ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم ، فقال: ما تنتظرون ها هنا؟

قالوا: محمدا . قال: قد والله خرج عليكم محمد ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا ، وانطلق لحاجته . فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، فإذا عليه تراب ، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا [رضي الله عنه] على الفراش متسجيا ببردة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقولون: إن هذا لمحمد نائم عليه برده . فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا ، فقام علي عن الفراش ، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا . وروى الواقدي عن أشياخه: أن الذين كانوا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من المشركين: أبو جهل ، والحكم بن أبي العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وابن العيطلة ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ، وأبي بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج .

فلما أصبحوا قام علي رضي الله عنه عن الفراش ، فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا علم لي به . وحكى جرير أنهم ضربوا عليا وحبسوه ساعة ، ثم تركوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية