غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 581 ] مطلب : في توبة المرابي والمبتدع .

( تنبيهات ) :

( الأول ) : توبة المرابي بأخذ رأس ماله وبرد ربحه إن أخذه .

وتوبة المبتدع أن يعترف بأن ما عليه بدعة . قال في الشرح : فأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها ، والرجوع عنها ، واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها .

وفي الرعاية : من كفر ببدعة قبلت توبته على الأصح ، قيل إن اعترف بها وإلا فلا . قال الإمام أحمد في رواية المروذي في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد : ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له .

وفي إرشاد ابن عقيل الرجل إذا دعا إلى بدعة ثم ندم على ما كان ، وقد ضل به خلق كثير وتفرقوا في البلاد وماتوا فإن توبته صحيحة إذا وجدت الشرائط ، ويجوز أن يغفر الله له ويقبل توبته ويسقط ذنب من ضل به بأن يرحمه ويرحمهم ، وبه قال أكثر العلماء خلافا لبعض أصحاب الإمام أحمد وهو أبو إسحاق بن شاقلا ، وهو مذهب الربيع بن نافع ، وأنها لا تقبل ، ثم احتج بالأثر الإسرائيلي الذي فيه " فكيف من أضللت " وبحديث { من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وبما روى أبو حفص العكبري عن أنس مرفوعا ، { إن الله عز وجل احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة } .

واختار شيخ الإسلام روح الله روحه صحة التوبة من كل ذنب كما دل عليه القرآن والحديث وصوبه ، وقال إنه قول جماهير أهل العلم وغلط من استثنى بعض الذنوب ، كقول بعضهم بعدم قبول توبة الداعية باطنا ، واحتج بأن الله تعالى قد بين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع . انتهى .

وقال ابن عقيل : التوبة من سائر الذنوب مقبولة ، خلافا لإحدى الروايتين عن أحمد لا تقبل توبة القاتل ولا الزنديق ثم بحث المسألة وقال : الزنديق إذا أظهر لنا هذا يجب أن نحكم بإيمانه بالظاهر وإن جاز أن يكون عند الله عز وجل كافرا ; لأن الزندقة نوع كفر ، فجاز أن تحبط بالتوبة كسائر الكفر من التوثن ، والتمجس ، والتهود ، والتنصر ، وكمن تظاهر بالصلاح إذا أتى معصية وتاب منها . قال وليس الواجب علينا معرفة الباطن جملة وإنما المأخوذ علينا حكم الظاهر ، فإذا بان في الظاهر حسن طريقته [ ص: 582 ] وتوبته وجب قبولها ولم يجز ردها لما بينا ، وأن جميع الأحكام تتعلق بها .

قال : ولم أجد لهم شبهة أوردها إلا أنهم حكوا عن علي رضي الله عنه أنه قتل زنديقا ولا أمنع من ذلك ، فإن الإمام إذا رأى قتله لكونه ساعيا في الأرض بالفساد ساغ له ذلك ، فأما أن يكون توبته لم تقبل فلا بدلالة أن قطاع الطريق لا يسقط الحد عنهم بالتوبة بعد القدرة عليهم ، ويحكم بصحتها عند الله عز وجل في غير إسقاط الحد عنهم ، فليس حيث لم يسقط القتل لا تصح التوبة . قال : ولعل الإمام أحمد رضي الله عنه عنى بقوله لا تقبل في إسقاط القتل ، فيكون ما قبله هو مذهبه رواية واحدة . انتهى .

والذي جزم به المتأخرون كالإقناع والمنتهى والغاية وغيرها عدم قبول توبة زنديق في الدنيا ، يعني بحسب الظاهر وهو المنافق ، يعني من يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، ولا من تكررت ردته . واستوجه في الغاية أن أقله ثلاث مرات كعادة حائض ، وكالحلولية والإباحية ، ومن يفضل متبوعه على النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه إذا حصلت له المعرفة والتحقيق سقط عنه التكليف ، أو أن العارف المحقق يجوز له التدين بدين اليهود والنصارى وأمثال هؤلاء ، ولا من سب الله ورسوله أو ملكا صريحا أو تنقصه ، ولا لساحر الذي يكفر بسحره ، ويقتلون بكل حال وأما في الآخرة فمن صدق منهم في توبته قبلت باطنا ، ومن أظهر الخير وأبطن الفسق فكالزنديق في توبته ، وعللوه بأنه لم يوجد بالتوبة سوى ما يظهره .

وظاهر كلام غير ابن عقيل تقبل . قال في الفروع : وهو أولى في الكل لقوله تعالى في المنافقين { إلا الذين تابوا } وهو ظاهر ما قدمه في الرعاية الصغرى والحاوي الصغير ، وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال فيمن تكررت ردته والساحر والزنديق قال في الإنصاف : وهو آخر قولي الإمام أحمد واختيار القاضي . انتهى .

وقال القاضي : سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة } وحجر التوبة أيش معناه ؟ قال أحمد : لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ ص: 583 ] لست منهم في شيء } فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل أهل البدع والأهواء ليست لهم توبة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : لأن اعتقاده كذلك يدعوه إلى أن لا ينظر نظرا تاما إلى دليل خلافه فلا يعرف الحق ، ولهذا قال السلف : إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية وقال أبو أيوب السجستاني وغيره : إن المبتدع لا يرجع .

وقال أيضا : التوبة من الاعتقاد الذي كثر ملازمة صاحبه له ومعرفته بحججه يحتاج إلى ما يقابل ذلك من المعرفة والعلم والأدلة . ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم { اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شبابهم } قال الإمام أحمد وغيره : لأن الشيخ قد سعى في الكفر فإسلامه بعيد بخلاف الشاب فإن قلبه لين فهو قريب إلى الإسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية