الآية الثامنة قوله تعالى : { 
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم   } . 
فيها مسألتان : 
المسألة الأولى : قوله تعالى : { 
إن تتقوا الله   } وقد تقدم القول في 
التقوى وحقيقتها وأنها فعلى ، من وقى يقي وقاية وواقية ، أبدلت الواو تاء لغة ; وذلك بأن يجعل بينه وبين مخالفة الله ومعصيته وقاية وحجابا ، ولها فيه محال : المحل الأول : العين : فإنها رائد القلب وربيئته ، فما تطلع عليه أرسلته إليه ، فهو يفصل منه الجائز مما لا يجوز ، وإذا جللتها بحجاب التقوى لم ترسل إلى القلب إلا ما يجوز ، فيستريح من شغب ذلك الإلقاء ; وربما أصابت هذا المعنى الشعراء كقولهم : 
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أسلمتك المناظر     رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه 
ولا عن بعضه أنت صابر 
وهذا وإن كان أخذ طرفا من المعنى ، فإن شيخنا 
عطاء المقدسي  شيخ الفقهاء 
والصوفية  ببيت المقدس  استوفى المعنى في بيتين أنشدناهما :  
[ ص: 394 ] إذا لمت عيني اللتين أضرتا     بجسمي وقلبي قالتا لم القلبا 
فإن لمت قلبي قال عيناك جرتا     علي الرزايا ثم لي تجعل الذنبا 
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=11208إن الله كتب على ابن آدم  حظه من الزنا . أدرك ذلك لا محالة ; فالعينان تزنيان وزناهما النظر ، واليدان تزنيان وزناهما البطش   } . 
المحل الثاني : الأذن : وهي رائد عظيم في قبيل الأصوات يلقي إلى القلب منها ما يغبيه ، وقد كانت البواطل فيه أكثر من الحقائق ، فعلى العبد أن يمتنع من الخوض في الباطل أولا ، وينزه نفسه عن مجالسة أهله ; وإذا سمع القول اتبع أحسنه ، ووعى أسلمه ، وصان عن غيره أذنه ، أو قذفه عن قلبه إن وصل إليه . 
المحل الثالث : اللسان : وفيه نيف على عشرين آفة وخصلة واحدة ، وهي الصدق ، وبها ينتفي عنه جميع الخصال الذميمة ، وعن بدنه جميع الأفعال القبيحة ، فإذا حجبه بالصدق فقد كملت له التقوى ، ونال المرتبة القصوى . 
المحل الرابع : اليد : وهي للبطش والتناول ، وفيها معاص منها : الغصب ، والسرقة ، ومحاولة الزنا ، والإذاية للحيوان والناس ، وحجابها الكف إلا عما أراد الله . 
المحل الخامس : الرجل : وهي للمشي إلى ما يحل ، وإلى ما يجب ، وحجابها الكف عما لا يجوز . 
المحل السادس : القلب : وهو البحر الخضم ، وفي القلب الفوائد الدينية ، والآفات المهلكة ، والتقوى ، فيه حجاب يسلخ الآفات عنه ، وشحنه بالنية الخالصة ; وشرحه بالتوحيد ، وخلع الكبر والعجب بمعرفته بأوله وآخره ، والتبري من الحسد ، والتحفظ من شوائب الشرك الظاهر والخفي ، بمراعاة غير الله في الأعمال ، والركون إلى الدنيا  
[ ص: 395 ] بالغفلة عن المال . 
فإذا انتهى العبد إلى هذا المقام مهد له قبوله مكانا ، ورزقه فيما يريده من الخير إمكانا ، وجعل له بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فرقانا ، وهي :