صفحة جزء
الآية الثانية عشرة :

قوله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } . فيها ثماني مسائل :

المسألة الأولى :

قوله تعالى : { من بيوتكم } : اعلموا وفقكم الله لسلوك سبيل المعارف أن كل ما علاك فأظلك فهو سقف ، وكل ما أقلك فهو أرض ، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت .

المسألة الثانية :

قوله تعالى : { سكنا } : يعني محلا تسكنون فيه ، وتهدأ جوارحكم عن الحركة ، وقد تتحرك فيه ، وتسكن في غيره ، إلا أن القول خرج فيه على غالب الحال ، وهو أن الحركة تكون فيما خرج عن البيت ، فإذا عاد المرء إليه سكن . وبهذا سميت مساكن لوجود السكون فيها في الأغلب ، وعد هذا في جملة النعم ، فإنه لو خلق العبد مضطربا أبدا كالأفلاك لكان ذلك كما خلق وأراد ، ولو خلق ساكنا كالأرض لكان كما خلق وأراد ، ولكنه أوجده خلقا يتصرف بالوجهين ، ويختلف حاله بين الحالين ، وردده بين كيف وأين .

المسألة الثالثة :

قوله : { جعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها } : يعني جلود الإبل والبقر والغنم ، فإنه يتخذ منها بيوتا ، وهي الأخبية ، فتضرب فيسكن فيها ، ويكون بنيانا عاليها ونواحيها ، وهذا أمر انتشر في تلك الديار ، وعريت عنه بلادنا ، فلا تضرب الأخبية إلا من الكتان والصوف . وقد { كان للنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 149 ] قبة من أدم } ، وناهيك بأديم الطائف غلاء في القيمة ، واعتلاء في الصفة ، وحسنا في البشرة . ولم يعد ذلك صلى الله عليه وسلم ترفا ولا رآه سرفا ; لأنه مما امتن الله به من نعمه ، وأذن فيه من متاعه ، وظهرت وجوه منفعته في الاكتنان والاستظلال الذي لا يقدر على الخروج عنه جنس الإنسان . ومن غريب ما جرى أني زرت بعض المتزهدين من الغافلين مع بعض رجال المحدثين ، فدخلنا عليه في خباء كتان ، فعرض عليه صاحبي المحدث أن يحمله إلى منزله ضيفا ، وقال : إن هذا موضع يكثر فيه الحر ، والبيت أرفق بك ، وأطيب لنفسي فيك . فقال له : هذا الخباء لنا كثير ، وكان في صنفها من الحقير . فقلت له : ليس كما زعمت ، قد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رئيس الزهاد قبة من أدم طائفي يسافر معها ، ويستظل بها ، فبهت ورأيته على منزلة من العي ، فتركته مع صاحبي ، وخرجت عنه .

المسألة الرابعة :

قوله : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } : أذن الله سبحانه في هذه الآية بالانتفاع بصوف الغنم ، ووبر الإبل ، وشعر المعز ، كما أذن في الأعظم ، وهو ذبحها وأكل لحومها . كما أخبر أنه خلق لنا ما في الأرض جميعا ، وعلم كيفية الانتفاع بها .

المسألة الخامسة :

قوله : { أثاثا } : هو كل ما يحتاج المرء إلى استعماله من آلة ، ويفتقر إليه في تصريف منافعه من حاجة ، ومنه أثاث البيت ، وأصله من الكثرة ، يقال : أث النبت يئث ، إذا كثر ، وكذلك الشعر يقال : شعر أثيث ، إذا كان كثيرا ملتفا .

المسألة السادسة :

قوله : { ومتاعا } : وهو كل ما انتفع به المرء في مصالحه ، وصرفه في حوائجه ، يقال : تمتع الرجل بماله إذا نال لذته ، وببدنه إذا وجد صحته ، وبأهله إذا أصاب حاجته ، وببنيه إذا ظهر بنصرتهم ، وبجيرته إذا رأى منفعتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية