صفحة جزء
المسألة الرابعة : قوله تعالى : { أو ردوها } : اختلفوا فيها على قولين : [ ص: 590 ]

أحدهما : حيوا بأحسن منها أو ردوها في السلام .

الثاني : أن أحسن منها هو في المسلم ، وأن ردها بعينها هو في الكافر ; واختاره الطبري . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن أهل الكتاب إذا سلموا عليك قالوا : السام عليكم فقولوا عليكم } . كذلك كان سفيان يقولها . والمحدثون يقولون بالواو ، والصواب سقوط الواو ; لأن قولنا لهم : عليكم رد ، وقولنا وعليكم مشاركة ، ونعوذ بالله من ذلك . { وكانت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : عليك السام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عليكم ففهمت عائشة قولهم ; فقالت عائشة : عليكم السام واللعنة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهلا يا عائشة فقالت : أولم تسمع ما قالوا يا رسول الله ؟ قال : أو لم تسمعي ما قلت عليكم ؟ إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم في } .

المسألة الخامسة : قال أصحاب أبي حنيفة : التحية هاهنا الهدية ، أراد الكرامة بالمال والهبة قال الشاعر :

إذ تحيي بضيمران وآس

وقال آخر : والمراد بهذا والله أعلم الكرامة بالمال ; لأنه قال : أو ردوها بأحسن منها ، ولا يمكن رد السلام بعينه . [ ص: 591 ]

وظاهر الآية يقتضي رد التحية بعينها ، وهي الهدية ، فإما بالتعويض أو الرد بعينه ، وهذا لا يمكن في السلام ، ولا يصح في العارية ؟ لأن رد العين هاهنا واجب من غير تخيير . قلنا : التحية تفعلة من الحياة ، وهي تنطلق في لسان العرب على وجوه ; منها البقاء قال زهير بن جناب :

من كل ما نال الفتى     قد نلته إلا التحية

ومنها الملك ، وقيل : إنه المراد هاهنا في بيت زهير .

ومنها السلام ، وهو أشهرها قال الله تعالى : { وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } . وقد أجمع العلماء والمفسرون أن المراد هاهنا بالتحية السلام حتى ادعى هذا القائل تأويله هذا ، ونزع بما لا دليل عليه . وإن العرب عبرت بالتحية عن الهدية فإن ذلك لمجاز ; لأنها تجلب التحية كما يجلبها السلام ، والسلام أول أسباب التحية ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : { ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم } وقال : { أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام } .

[ ص: 592 ] فعلى هذا يصح أن تسمى الهدية بها مجازا كأنها حياة للمحبة ، ولا يصح حمل اللفظ على المجاز ، وإسقاط الحقيقة بغير دليل .

فإن قيل : نحمله عليهما جميعا . قلنا لهم : أنتم لا ترون ذلك ; فلا يصح لكم بالقول به ، وإذا ثبت هذا بقيت الآية على ظاهرها ، وإن حملوه على الهدية على مذهبنا في هبة الثواب فنستثني منها الولد مع والده بما قررناه من الأدلة في مسائل الخلاف ، فليطلب هنالك ، فصحت لنا الآية على الوجهين جميعا ، والحمد لله . وبقية الكلام ينظر في مسائل الخلاف فليطلب هنا لك . وقد اختلف في معنى السلام عليكم ، فقيل : هو مصدر سلم يسلم سلامة وسلاما ، كلذاذة ولذاذا ، وقيل للجنة دار السلام ; لأنها دار السلامة من الفناء والتغير والآفات .

وقيل : السلام اسم من أسماء الله تعالى ; لأنه لا يلحقه نقص ، ولا يدركه آفات الخلق . فإذا قلت : السلام عليكم فيحتمل الله رقيب عليكم . وإن أردت بيني وبينكم عقد السلامة وذمام النجاة . حدثنا الحضرمي ، أخبرنا ابن منير ، أخبرنا النيسابوري [ أنبأنا قليله ] ، أنبأنا محمد بن علي ، سمعت أبي يقول : قال ابن عيينة : أتدري ما السلام ؟ تقول : أنت مني آمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية