صفحة جزء
باب نفقة البهائم 2992 - ( عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها [ ص: 7 ] تأكل من خشاش الأرض } وروى أبو هريرة مثله ) .

2993 - ( وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا : يا رسول الله وإن لنا في البهام أجرا ؟ فقال : في كل كبد رطبة أجر } متفق عليهن ) .

2994 - ( وعن سراقة بن مالك قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضالة من الإبل تغشى حياضي قد لطتها للإبل هل لي من أجر في شأن ما أسقيها ؟ قال : نعم في كل ذات كبد حراء أجر } رواه أحمد )


حديث سراقة أخرجه أيضا ابن ماجه وأبو يعلى والبغوي والطبراني في الكبير والضياء في المختارة . قوله : ( عذبت امرأة ) قال الحافظ : لم أقف على اسمها ، ووقع في رواية أنها حميرية ، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل كما في مسلم ، والجمع ممكن لأن طائفة من حمير دخلوا في اليهودية فيكون نسبتها إلى بني إسرائيل لأنهم أهل دينها ، وإلى حمير لأنهم قبيلتها . قوله : ( في هرة ) أي بسبب هرة ، والهرة : أنثى السنور ، قوله : ( خشاش الأرض ) بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها بعدها معجمتان بينهما ألف ، والمراد هوام الأرض وحشراتها . قال النووي : وروي بالحاء المهملة ، والمراد نبات الأرض ، قال : وهو ضعيف أو غلط .

وفي رواية " من حشرات الأرض " . وقد استدل بهذا الحديث على تحريم حبس الهرة وما يشابهها من الدواب بدون طعام ولا شراب ، لأن ذلك من تعذيب خلق الله ، وقد نهى عنه الشارع . قال القاضي عياض : يحتمل أن تكون عذبت في النار حقيقة أو بالحساب ، لأن من نوقش الحساب عذب ولا يخفى أن قوله : " فدخلت فيها النار " يدل على الاحتمال الأول . وقد قيل : إن المرأة كانت كافرة فدخلت النار بكفرها وزيد في عذابها لأجل الهرة . قال النووي : والأظهر أنها كانت مسلمة ، وإنما دخلت النار بهذه المعصية .

قوله : ( يلهث ) قال في القاموس : اللهثان : العطشان ، وبالتحريك العطش كاللهث واللهاث ، وقد لهث كسمع وكغراب : حر العطش وشدة الموت قال : [ ص: 8 ] ولهث كمنع لهثا ولهاثا بالضم : أخرج لسانه عطشا وتعبا أو إعياء كالتهث واللهثة بالضم : التعب والعطش انتهى . قوله : ( الثرى ) هو التراب الندي كما في القاموس . قوله : ( في كل كبد رطبة ) الرطب في الأصل ضد اليابس ، وأريد به هنا الحياة لأن الرطوبة في البدن تلازمها ، وكذلك الحرارة في الأصل ضد البرودة ، وأريد بها هنا الحياة لأن الحرارة تلازمها . وقد استدل بأحاديث الباب على وجوب نفقة الحيوان على مالكه ، وليس فيها ما يدل على الوجوب المدعى .

أما حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة الأول الذي أشار إليه المصنف فليس فيهما إلا وجوب إنفاق الحيوان المحبوس على حابسه ، وهو أخص من الدعوى ، اللهم إلا أن يقال : إن مالك الحيوان حابس له في ملكه ، فيجب الإنفاق على كل مالك لذلك ما دام حابسا له لا إذا سيبه ، فلا وجوب عليه لقوله في الحديث : " ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض " كما وقع التصريح بذلك في كتب الفقه ، ولكن لا يبرأ بالتسييب إلا إذا كان في مكان معشب يتمكن الحيوان فيه من تناول ما يقوم بكفايته ، وأما حديث أبي هريرة الثاني فليس فيه إلا أن المحسن إلى الحيوان عند الحاجة إلى الشراب - ويلحق به الطعام - مأجور ، وليس النزاع في استحقاق الأجر بما ذكر إنما النزاع في الوجوب .

وكذلك حديث سراقة بن مالك ليس فيه إلا مجرد الأجر للفاعل وهو يحصل بالمندوب فلا يستفاد منه الوجوب ، غاية الأمر أن الإحسان إلى الحيوان المملوك أولى من الإحسان إلى غيره ، لأن هذه الأحاديث مصرحة بأن الإحسان إلى غير المملوك موجب للأجر وفحوى الخطاب يدل على أن المملوك أولى بالإحسان لكونه محبوسا عن منافع نفسه بمنافع مالكه ، وأما أن المحسن إليه أولى بالأجر من المحسن إلى غير المملوك فلا ، فأولى ما يستدل به على وجوب إنفاق الحيوان المملوك حديث الهرة ، لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ليس مجرد ذلك الإنفاق ، بل مجموع الترك والحبس ، فإذا كان هذا الحكم ثابتا في مثل الهرة ، فثبوته في مثل الحيوانات التي تملك أولى لأنها مملوكة محبوسة مشغولة بمصالح المالك .

وقد ذهبت العترة والشافعي وأصحابه إلى أن مالك البهيمة إذا تمرد عن علفها أو بيعها أو تسييبها أجبر كما يجبر مالك العبد بجامع كون كل منهما مملوكا ذا كبد رطبة ، مشغولا بمصالح مالكه محبوسا عن مصالح نفسه . وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن مالك الدابة يؤمر بأحد تلك الأمور استصلاحا لا حتما ، قالوا : إذ لا يثبت لها حق ولا خصومة ولا ينصب عنها فهي كالشجرة . وأجيب بأنها ذات روح محترم فيجب حفظه كالآدمي ، وأما الشجر فلا يجبر على إصلاحه إجماعا لكونه ليس بذي روح فافترقا ، والتخيير بين الأمور الثلاثة المذكورة إنما هي في الحيوان الذي دمه محترم ، وأما الحيوان الذي يحل أكله فيخير المالك بين تلك الأمور الثلاثة أو الذبح .

قوله : ( قد لطتها ) بضم [ ص: 9 ] اللام وبالطاء المهملة وهو في الأصل : اللزوم والستر والإلصاق كما حققه صاحب القاموس ، والمراد هنا إصلاح الحياض ، يقال : لاط حوضه يليطه : إذا أصلحه بالطين والمدر ونحوهما ، ومنه قيل : اللائط ، لمن يفعل الفاحشة .

التالي السابق


الخدمات العلمية