الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب نفقة البهائم 2992 - ( عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها [ ص: 7 ] تأكل من خشاش الأرض } وروى أبو هريرة مثله ) .

                                                                                                                                            2993 - ( وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا : يا رسول الله وإن لنا في البهام أجرا ؟ فقال : في كل كبد رطبة أجر } متفق عليهن ) .

                                                                                                                                            2994 - ( وعن سراقة بن مالك قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضالة من الإبل تغشى حياضي قد لطتها للإبل هل لي من أجر في شأن ما أسقيها ؟ قال : نعم في كل ذات كبد حراء أجر } رواه أحمد )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث سراقة أخرجه أيضا ابن ماجه وأبو يعلى والبغوي والطبراني في الكبير والضياء في المختارة . قوله : ( عذبت امرأة ) قال الحافظ : لم أقف على اسمها ، ووقع في رواية أنها حميرية ، وفي أخرى أنها من بني إسرائيل كما في مسلم ، والجمع ممكن لأن طائفة من حمير دخلوا في اليهودية فيكون نسبتها إلى بني إسرائيل لأنهم أهل دينها ، وإلى حمير لأنهم قبيلتها . قوله : ( في هرة ) أي بسبب هرة ، والهرة : أنثى السنور ، قوله : ( خشاش الأرض ) بفتح الخاء المعجمة ويجوز ضمها وكسرها بعدها معجمتان بينهما ألف ، والمراد هوام الأرض وحشراتها . قال النووي : وروي بالحاء المهملة ، والمراد نبات الأرض ، قال : وهو ضعيف أو غلط .

                                                                                                                                            وفي رواية " من حشرات الأرض " . وقد استدل بهذا الحديث على تحريم حبس الهرة وما يشابهها من الدواب بدون طعام ولا شراب ، لأن ذلك من تعذيب خلق الله ، وقد نهى عنه الشارع . قال القاضي عياض : يحتمل أن تكون عذبت في النار حقيقة أو بالحساب ، لأن من نوقش الحساب عذب ولا يخفى أن قوله : " فدخلت فيها النار " يدل على الاحتمال الأول . وقد قيل : إن المرأة كانت كافرة فدخلت النار بكفرها وزيد في عذابها لأجل الهرة . قال النووي : والأظهر أنها كانت مسلمة ، وإنما دخلت النار بهذه المعصية .

                                                                                                                                            قوله : ( يلهث ) قال في القاموس : اللهثان : العطشان ، وبالتحريك العطش كاللهث واللهاث ، وقد لهث كسمع وكغراب : حر العطش وشدة الموت قال : [ ص: 8 ] ولهث كمنع لهثا ولهاثا بالضم : أخرج لسانه عطشا وتعبا أو إعياء كالتهث واللهثة بالضم : التعب والعطش انتهى . قوله : ( الثرى ) هو التراب الندي كما في القاموس . قوله : ( في كل كبد رطبة ) الرطب في الأصل ضد اليابس ، وأريد به هنا الحياة لأن الرطوبة في البدن تلازمها ، وكذلك الحرارة في الأصل ضد البرودة ، وأريد بها هنا الحياة لأن الحرارة تلازمها . وقد استدل بأحاديث الباب على وجوب نفقة الحيوان على مالكه ، وليس فيها ما يدل على الوجوب المدعى .

                                                                                                                                            أما حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة الأول الذي أشار إليه المصنف فليس فيهما إلا وجوب إنفاق الحيوان المحبوس على حابسه ، وهو أخص من الدعوى ، اللهم إلا أن يقال : إن مالك الحيوان حابس له في ملكه ، فيجب الإنفاق على كل مالك لذلك ما دام حابسا له لا إذا سيبه ، فلا وجوب عليه لقوله في الحديث : " ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض " كما وقع التصريح بذلك في كتب الفقه ، ولكن لا يبرأ بالتسييب إلا إذا كان في مكان معشب يتمكن الحيوان فيه من تناول ما يقوم بكفايته ، وأما حديث أبي هريرة الثاني فليس فيه إلا أن المحسن إلى الحيوان عند الحاجة إلى الشراب - ويلحق به الطعام - مأجور ، وليس النزاع في استحقاق الأجر بما ذكر إنما النزاع في الوجوب .

                                                                                                                                            وكذلك حديث سراقة بن مالك ليس فيه إلا مجرد الأجر للفاعل وهو يحصل بالمندوب فلا يستفاد منه الوجوب ، غاية الأمر أن الإحسان إلى الحيوان المملوك أولى من الإحسان إلى غيره ، لأن هذه الأحاديث مصرحة بأن الإحسان إلى غير المملوك موجب للأجر وفحوى الخطاب يدل على أن المملوك أولى بالإحسان لكونه محبوسا عن منافع نفسه بمنافع مالكه ، وأما أن المحسن إليه أولى بالأجر من المحسن إلى غير المملوك فلا ، فأولى ما يستدل به على وجوب إنفاق الحيوان المملوك حديث الهرة ، لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ليس مجرد ذلك الإنفاق ، بل مجموع الترك والحبس ، فإذا كان هذا الحكم ثابتا في مثل الهرة ، فثبوته في مثل الحيوانات التي تملك أولى لأنها مملوكة محبوسة مشغولة بمصالح المالك .

                                                                                                                                            وقد ذهبت العترة والشافعي وأصحابه إلى أن مالك البهيمة إذا تمرد عن علفها أو بيعها أو تسييبها أجبر كما يجبر مالك العبد بجامع كون كل منهما مملوكا ذا كبد رطبة ، مشغولا بمصالح مالكه محبوسا عن مصالح نفسه . وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن مالك الدابة يؤمر بأحد تلك الأمور استصلاحا لا حتما ، قالوا : إذ لا يثبت لها حق ولا خصومة ولا ينصب عنها فهي كالشجرة . وأجيب بأنها ذات روح محترم فيجب حفظه كالآدمي ، وأما الشجر فلا يجبر على إصلاحه إجماعا لكونه ليس بذي روح فافترقا ، والتخيير بين الأمور الثلاثة المذكورة إنما هي في الحيوان الذي دمه محترم ، وأما الحيوان الذي يحل أكله فيخير المالك بين تلك الأمور الثلاثة أو الذبح .

                                                                                                                                            قوله : ( قد لطتها ) بضم [ ص: 9 ] اللام وبالطاء المهملة وهو في الأصل : اللزوم والستر والإلصاق كما حققه صاحب القاموس ، والمراد هنا إصلاح الحياض ، يقال : لاط حوضه يليطه : إذا أصلحه بالطين والمدر ونحوهما ، ومنه قيل : اللائط ، لمن يفعل الفاحشة .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية