صفحة جزء
باب بقاء الهجرة إلى دار الإسلام وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها 3451 - ( عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله } رواه أبو داود ) .

3452 - ( وعن جرير بن عبد الله : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله ولم ؟ قال : لا تتراءى ناراهما } رواه أبو داود والترمذي ) .

3453 - ( وعن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } رواه أحمد وأبو داود ) .

[ ص: 31 ] ( وعن عبد الله بن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو } رواه أحمد والنسائي ) .

3455 - ( وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا } رواه الجماعة إلا ابن ماجه ، لكن له منه " إذا استنفرتم فانفروا " وروت عائشة مثله . متفق عليه ) .

3456 - ( وعن عائشة ، وسئلت عن الهجرة فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء . رواه البخاري ) .

3457 - ( وعن مجاشع بن مسعود أنه { جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا مجالد جاء يبايعك على الهجرة ، فقال : لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد } متفق عليه ) .


حديث سمرة قال الذهبي : إسناده مظلم لا تقوم بمثله حجة .

وحديث جرير أيضا أخرجه ابن ماجه ورجال إسناده ثقات ، ولكن صحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم ، ورواه الطبراني أيضا موصولا .

وحديث معاوية أخرجه أيضا النسائي . قال الخطابي : إسناده فيه مقال .

وحديث عبد الله السعدي أخرجه أيضا ابن ماجه وابن منده والطبراني والبغوي وابن عساكر .

قوله : ( فهو مثله ) فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب مفارقتهم . والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم لكن يشهد لصحته قوله تعالى: { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } وحديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده مرفوعا : { لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين } قوله : ( لا تتراءى ناراهما ) يعني لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الإبصار لأبصرت الأخرى ، فإثبات الرؤية للنار مجاز قوله : ( ما قوتل العدو ) فيه [ ص: 32 ] دليل على أن الهجرة باقية ما بقيت المقاتلة للكفار قوله : ( لا هجرة بعد الفتح ) أصل الهجرة هجر الوطن ، وأكثر ما تطلق على من رحل من البادية إلى القرية قوله : ( ولكن جهاد ونية ) قال الطيبي وغيره : هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله . والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية ، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك قوله : ( وإذا استنفرتم فانفروا ) .

قال النووي : يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة ، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه . قال الطيبي : إن قوله : " ولكن جهاد . . . إلخ " معطوف على محل مدخول " لا هجرة " أي الهجرة من الوطن إما للفرار من الكفار ، أو إلى الجهاد أو إلى غير ذلك كطلب العلم فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما بل إذا استنفرتم فانفروا . قال الحافظ : وليس .

الأمر في انقطاع الهجرة من الكفار على ما قال انتهى

. وقد اختلف في الجمع بين أحاديث الباب ، فقال الخطابي وغيره : كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع ، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا ، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى

. قال الحافظ : وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى من يؤذيه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه ، وفيهم نزلت : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } الآية ، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها . وقال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام ، ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر .

وقال الخطابي أيضا : إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين . وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل انقطعت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب . وقال البغوي في شرح السنة : يحتمل الجمع بطريق أخرى ، فقوله : " لا هجرة بعد الفتح " أي من مكة إلى المدينة ، وقوله : " لا [ ص: 33 ] تنقطع " أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام .

قال : ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله : " لا هجرة " أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن ، فقوله : " لا تنقطع " أي هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم . وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ { انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار } أي ما دام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه ، ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها . وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة ، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرا . قال الحافظ : وهو إطلاق مردود . وقال ابن العربي : الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى حيث كان . وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته لسلطانه . وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسا على دار الكفر ، وهو قياس مع الفارق .

والحق عدم وجوبها من دار الفسق لأنها دار إسلام ، وإلحاق دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية ، وللفقهاء في تفاصيل الدور والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث ليس هذا محل بسطها .

التالي السابق


الخدمات العلمية