الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب بقاء الهجرة إلى دار الإسلام وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها 3451 - ( عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            3452 - ( وعن جرير بن عبد الله : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله ولم ؟ قال : لا تتراءى ناراهما } رواه أبو داود والترمذي ) .

                                                                                                                                            3453 - ( وعن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            [ ص: 31 ] ( وعن عبد الله بن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو } رواه أحمد والنسائي ) .

                                                                                                                                            3455 - ( وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا } رواه الجماعة إلا ابن ماجه ، لكن له منه " إذا استنفرتم فانفروا " وروت عائشة مثله . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3456 - ( وعن عائشة ، وسئلت عن الهجرة فقالت : لا هجرة اليوم ، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن ، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام ، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء . رواه البخاري ) .

                                                                                                                                            3457 - ( وعن مجاشع بن مسعود أنه { جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هذا مجالد جاء يبايعك على الهجرة ، فقال : لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث سمرة قال الذهبي : إسناده مظلم لا تقوم بمثله حجة .

                                                                                                                                            وحديث جرير أيضا أخرجه ابن ماجه ورجال إسناده ثقات ، ولكن صحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم ، ورواه الطبراني أيضا موصولا .

                                                                                                                                            وحديث معاوية أخرجه أيضا النسائي . قال الخطابي : إسناده فيه مقال .

                                                                                                                                            وحديث عبد الله السعدي أخرجه أيضا ابن ماجه وابن منده والطبراني والبغوي وابن عساكر .

                                                                                                                                            قوله : ( فهو مثله ) فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب مفارقتهم . والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم لكن يشهد لصحته قوله تعالى: { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } وحديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده مرفوعا : { لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين } قوله : ( لا تتراءى ناراهما ) يعني لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الإبصار لأبصرت الأخرى ، فإثبات الرؤية للنار مجاز قوله : ( ما قوتل العدو ) فيه [ ص: 32 ] دليل على أن الهجرة باقية ما بقيت المقاتلة للكفار قوله : ( لا هجرة بعد الفتح ) أصل الهجرة هجر الوطن ، وأكثر ما تطلق على من رحل من البادية إلى القرية قوله : ( ولكن جهاد ونية ) قال الطيبي وغيره : هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله . والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية ، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك قوله : ( وإذا استنفرتم فانفروا ) .

                                                                                                                                            قال النووي : يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة ، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه . قال الطيبي : إن قوله : " ولكن جهاد . . . إلخ " معطوف على محل مدخول " لا هجرة " أي الهجرة من الوطن إما للفرار من الكفار ، أو إلى الجهاد أو إلى غير ذلك كطلب العلم فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما بل إذا استنفرتم فانفروا . قال الحافظ : وليس .

                                                                                                                                            الأمر في انقطاع الهجرة من الكفار على ما قال انتهى

                                                                                                                                            . وقد اختلف في الجمع بين أحاديث الباب ، فقال الخطابي وغيره : كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع ، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا ، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى

                                                                                                                                            . قال الحافظ : وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى من يؤذيه من الكفار فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه ، وفيهم نزلت : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } الآية ، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها . وقال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام ، ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر .

                                                                                                                                            وقال الخطابي أيضا : إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين . وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل انقطعت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب . وقال البغوي في شرح السنة : يحتمل الجمع بطريق أخرى ، فقوله : " لا هجرة بعد الفتح " أي من مكة إلى المدينة ، وقوله : " لا [ ص: 33 ] تنقطع " أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام .

                                                                                                                                            قال : ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله : " لا هجرة " أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن ، فقوله : " لا تنقطع " أي هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم . وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ { انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار } أي ما دام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه ، ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها . وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة ، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرا . قال الحافظ : وهو إطلاق مردود . وقال ابن العربي : الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى حيث كان . وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته لسلطانه . وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسا على دار الكفر ، وهو قياس مع الفارق .

                                                                                                                                            والحق عدم وجوبها من دار الفسق لأنها دار إسلام ، وإلحاق دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية ، وللفقهاء في تفاصيل الدور والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث ليس هذا محل بسطها .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية