صفحة جزء
[ ص: 120 ] كتاب الأطعمة والصيد والذبائح باب في أن الأصل في الأعيان والأشياء الإباحة إلى أن يرد منع أو إلزام 3567 - ( عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما ، من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته } ) . 3568 - ( وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، واذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } متفق عليهما ) .

3569 - ( وعن سلمان الفارسي قال : { سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء ، فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم } رواه ابن ماجه والترمذي ) . 3570 - ( وعن علي عليه السلام قال : { لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ فسكت فقالوا : يا رسول الله في كل عام ؟ قال : لا ، ولو قلت نعم لوجبت } ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } رواه أحمد والترمذي وقال : حديث حسن )


حديث سلمان قيل : إنه لم يوجد في سنن الترمذي ، ويدل على ذلك أنه روى صاحب جامع الأصول شطرا منه من قوله : " الحلال ما أحل الله . . . إلخ " ولم ينسبه إلىالترمذي بل بيض له ، ولكنه قد عزاه الحافظ في الفتح في باب ما يكره من كثرة السؤال إلى الترمذي [ ص: 121 ] كما فعله المصنف . والحديث أورده الترمذي في كتاب اللباس ، وبوب له باب ما جاء في لباس الفراء . وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك ، وقد ساقه ابن ماجه بإسناد فيه سيف بن هارون البرجمي وهو ضعيف متروك .

وحديث علي أخرجه أيضا الحاكم وهو منقطع كما قال الحافظ ، وصورة إسناده في الترمذي قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا منصور بن زاذان عن علي بن عبد الأعلى عن أبيه عن أبي البختري عن علي فذكره . قال أبو عيسى الترمذي : حديث علي حديث غريب ، واسم أبي البختري سعيد بن أبي عمران وهو سعيد بن فيروز انتهى . وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وقد تقدما في أول كتاب الحج . وفي الباب أحاديث ساقها البخاري في باب : ما يكره من كثرة السؤال . وأخرج البزار وقال : سنده صالح ، والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء رفعه بلفظ { ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ، وتلا { وما كان ربك نسيا } } .

وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه { إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها . وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها } .

وأخرج مسلم من حديث أنس وأصله في البخاري قال : " كنا نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء " الحديث .

وفي البخاري من حديث ابن عمر { فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها } . وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : " لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } الآية ، كنا قد اتقينا أن نسأله - صلى الله عليه وسلم - " الحديث .

والراجح في تفسير الآية أنها نزلت في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن ، وقد أنكر ذلك جماعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال : اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقا بهذه الآية ، وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في جوابه ، ومسائل النوازل ليست كذلك ، قال الحافظ : وهو كما قال إلا أن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي ، ويؤيده حديث سعد المذكور في أول الباب ، لأنه قد أمن من وقوع التحريم لأجل المسألة ، ولكن ليس الظاهر ما قاله ابن العربي من الاختصاص ; لأن المساءة مجوزة في السؤال عن كل أمر لم يقع . وأما ما ثبت في الأحاديث من وقوع المسائل من الصحابة فيحتمل أن ذلك قبل نزول الآية . ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه كبيان ما أجمل أو نحو ذلك مما وقعت عنه المسائل . وقد وردت عن الصحابة آثار كثيرة في المنع من ذلك ساقها الدارمي في أوائل مسنده ، منها عن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول : هل كان هذا ؟ فإن قيل لا ، قال : دعوه حتى يكون .

قال في الفتح : والتحقيق في ذلك أن البحث عما [ ص: 122 ] لا يوجد فيه نص على قسمين : أحدهما : أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه ، بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين . ثانيهما : أن يدقق النظر في وجوه الفرق فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع ، أو بالعكس بأن يجمع بين مفترقين لوصف طردي مثلا ، فهذا الذي ذمه السلف ، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه " هلك المتنطعون " أخرجه مسلم فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته ، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، وهي نادرة الوقوع جدا فيصرف فيها زمانا كان صرفا في غيرها أولى ، ولا سيما إن لزم من ذلك المقال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه ، وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها .

ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل ، والكثير منه لم يثبت فيه شيء ، فيجب الإيمان به من غير بحث . وأشد من ذلك ما وقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة كما صح من حديث أبي هريرة رفعه عند البخاري وغيره { لا يزال الناس يتساءلون هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله } قال الحافظ : فمن سد باب المسائل حتى فاته كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه ، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ، ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة فإنه يذم فعله ، وهو عين الذي كرهه السلف . ومذ أمعن البحث عن معاني كتاب الله تعالى محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة فيها ، فإنه الذي يحمد وينفع وينتفع به وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم ، حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الأولى فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وهم من أهل دين واحد والوسط هو المعتدل من كل شيء ، وإلى ذلك يشير قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور في الباب : { فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم } فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد ، وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم .

وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به ، فقد وقع الكلام في أيهما أولى : يعني هل العلم أو العمل والإنصاف أن يقال كل ما زاد على ما هو في حق المكلف فرض عين . فالناس فيه على قسمين : من وجد من نفسه قوة على الفهم والتحرير فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدي ، ومن وجد من نفسه قصورا [ ص: 123 ] فإقباله على العبادة أولى به لعسر اجتماع الأمرين ، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك على أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه . والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فاته الأمران لعدم حصول الأول له وإعراضه عن الثاني انتهى

قوله : ( إن أعظم المسلمين . . . إلخ ) هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري " إن أعظم الناس جرما " قال الطيبي : فيه من المبالغة أنه جعله عظيما ثم فسره بقوله جرما ليدل على أنه نفسه جرم ، قال : وقوله في المسلمين : أي في حقهم . قوله : ( فحرم ) بضم الحاء المهملة وتشديد الراء . قال ابن بطال عن المهلب : ظاهر الحديث يتمسك به القدرية في أن الله يفعل شيئا من أجل شيء وليس كذلك ، بل هو على كل شيء قدير فهو فاعل السبب والمسبب ، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر فعظم جرم من فعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله . وقال غيره : أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه فلا يمتنع أن يكون الشيء الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه فقد سبق القضاء بذلك إلا أن السؤال علة للتحريم .

وقال ابن التين : قيل الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرة لسؤاله ، وهي منعهم التصرف فيما كان حلالا قبل مسألته . وقال القاضي عياض : المراد بالجرم هنا الحدث على المسلمين لا الذي هو بمعنى الإثم المعاقب عليه ; لأن السؤال كان مباحا ، ولهذا قال : " سلوني " وتعقبه النووي فقال : هذا الجواب ضعيف أو باطل .

والصواب الذي قاله الخطابي والتيمي وغيرهما أن المراد بالجرم : الإثم ، والذنب حملوه على من سأل تكلفا وتعنتا فيما لا حاجة له به إليه ، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال عما يحتاج إليه بقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر } فمن سأل عن نازلة وقعت له لضرورته إليها فهو معذور فلا إثم عليه ولا عتب ، فكل من الأمر بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى . قال : ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضر به غيره كان آثما . وأورد الكرماني على الحديث سؤالا فقال : السؤال ليس بجريمة ، ولئن كان فليس بكبيرة ، ولئن كان فليس بأكبر الكبائر . وأجاب أن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببا لتحريم شيء مباح هو أعظم الجرم لأنه صار سببا لتضييق الأمر على جميع المكلفين ، فالقتل مثلا كبيرة ولكن مضرته راجعة إلى المقتول وحده أو إلى من هو منه بسبيل بخلاف صورة المسألة فضررها عام للجميع انتهى .

وقد روي ما يدل على أنه قد وقع في زمنه - صلى الله عليه وسلم - من المسائل ما كان سببا لتحريم الحلال . أخرج البزار عن سعد بن أبي وقاص قال : { كان الناس يتساءلون عن الشيء من الأمر فيسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال ، فلا يزالون يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يحرم عليهم } قوله : ( ذروني ) في رواية للبخاري : " دعوني " ومعناهما واحد قوله : ( ما تركتكم ) أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء . قال ابن فرج : معناه لا تكثروا من [ ص: 124 ] الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظاهره ولو كانت صالحة لغيره كما أن قوله : " حجوا " وإن كان صالحا للتكرار فينبغي أن يكتفي بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة ، فإن الأصل عدم الزيادة ولا يكثر التعنت عن ذلك فإنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل في البقرة .

قوله : ( واختلافهم ) يجوز فيه الرفع والجر . قوله : ( فإذا نهيتكم ) هذا النهي عام في جميع المناهي ، ويستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله ، وإليه ذهب الجمهور ، وخالف قوم فتمسكوا بالعموم فقالوا : الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها . قوله : ( وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) أي اجعلوه قدر استطاعتكم . قال النووي : هذا من جوامع الكلم وقواعد الإسلام ، ويدخل فيه كثير من الأحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور ، وكذا الوضوء وستر العورة ، وحفظ بعض الفاتحة ، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار ، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها ، واستدل به على إن أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه ، وبذلك استدل المزني على أن ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه ، ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد .

واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشارع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك ، وقيد في المأمورات بالاستطاعة ، وهذا منقول عن الإمام أحمد فإن قيل : إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين ، كذا قيل . قال الحافظ : والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعى من الاعتبار ، بل هو من جهة الكف إذ كل واحد قادر على الكف لولا داعية الشهرة مثلا فلا يتصور عدم من الكف بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل ، فإن العجز عن تعاطيه محسوس ، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي ، قال ابن فرج في شرح الأربعين : إن الأمر بالاجتناب على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة وشرب الخمر عند الإكراه ، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان كما نطق به القرآن .

قال الحافظ : والتحقيق أن المكلف في كل ذلك ليس منهيا في تلك الحال . وقال الماوردي : إن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل ، وعمل الطاعة فعل وهو شاق ، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك ، والترك لا يعجز المعذور عنه ، وادعى بعضهم أن قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي ، وقد قيد بالاستطاعة فاستويا ، وحينئذ تكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف [ ص: 125 ] النهي ، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار وهو قوله تعالى { إلا ما اضطررتم إليه } وهو مضطر ، ولا يرد الإكراه لأنه مندرج في الاضطرار .

وزعم بعضهم أن قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } نسخ بقوله تعالى { اتقوا الله حق تقاته } قال الحافظ : والصحيح أنه لا نسخ بل المراد بحق تقاته : امتثال أمره واجتناب نهيه مع القدرة لا مع العجز قوله : ( الفراء ) بفتح الفاء مهموز : حمار الوحش كذا في مختصر النهاية ، ولكن تبويب الترمذي الذي ذكرناه سابقا يدل على أن الفراء بكسر الفاء جمع فرو قوله : ( الحلال ما أحل الله في كتابه . . . إلخ ) المراد من هذه العبارة وأمثالها مما يدل على حصر التحليل والتحريم على الكتاب العزيز هو باعتبار اشتماله على جميع الأحكام ولو بطريق العموم أو الإشارة ، أو باعتبار الأغلب لحديث { إني أوتيت القرآن ومثله معه } وهو حديث صحيح .

قوله : ( وعن علي . . . إلخ ) قد تقدم الكلام إلى ما اشتمل عليه حديث علي في أول كتاب الحج . .

التالي السابق


الخدمات العلمية