صفحة جزء
[ ص: 5 ] أبواب السترة أمام المصلي وحكم المرور دونها

باب استحباب الصلاة إلى السترة والدنو منها والانحراف قليلا عنها والرخصة في تركها

871 - ( عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها } . رواه أبو داود وابن ماجه )


الحديث في إسناده محمد بن عجلان وبقية رجاله رجال الصحيح . وقد أخرج أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة بمعناه ، وأخرجه أيضا النسائي قال أبو داود في سننه : وقد اختلف في إسناده ، وقد بين ذلك الاختلاف قوله : ( فليصل إلى سترة ) فيه أن اتخاذ السترة واجب ، ويؤيده حديث أبي هريرة الآتي ، وحديث سبرة بن معبد الجهني عند الحاكم ، وقال : على شرط مسلم بلفظ { ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم } قوله : ( وليدن منها ) فيه مشروعية الدنو من السترة حتى يكون مقدار ما بينهما ثلاثة أذرع كما سيأتي

والحكمة في الأمر بالدنو أن لا يقطع الشيطان عليه صلاته ، كما أخرجه أبو داود في هذا الحديث متصلا بقوله : " وليدن منها " ، والمراد بالشيطان : المار بين يدي المصلي كما في حديث { فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان } قال في شرح المصابيح : معناه : يدنو من السترة حتى لا يوسوس الشيطان عليه صلاته . وسيأتي سبب تسمية المار شيطانا والخلاف فيه .

872 - ( وعن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي ، فقال : كمؤخرة الرحل } . رواه مسلم )

قوله : ( كمؤخرة الرحل ) قال النووي : المؤخرة بضم الميم وكسر الخاء وهمزة [ ص: 6 ] ساكنة ، ويقال : بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء ، مع إسكان الهمزة وتخفيف الخاء ، ويقال : آخرة الرحل ، بهمزة ممدودة وكسر الخاء فهذه أربع لغات وهي : العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب من كور البعير ، وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع .

والحديث يدل على مشروعية السترة . قال النووي : ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه . قال العلماء : والحكمة في السترة كف البصر عما وراءها ومنع من يجتاز بقربه

873 - ( وعن ابن عمر قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد يأمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر } . متفق عليه ) . قوله : ( يأمر بالحربة ) أي يأمر خادمه بحمل الحربة .

وفي لفظ لابن ماجه : وذلك أن المصلى كان في فضاء ليس فيه شيء يستره . قوله : ( والناس ) بالرفع عطفا على فاعل فيصلي . قوله : ( وكان يفعل ذلك ) أي نصب الحربة بين يديه حيث لا يكون جدار ، والحديث يدل على مشروعية اتخاذ السترة في الفضاء وملازمة ذلك في السفر ، وعلى أن السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلي وإن دق .

874 - ( وعن سهل بن سعد قال : { كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر شاة } . متفق عليه .

وفي حديث بلال { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فصلى وبينه وبين الجدار نحو من ثلاثة أذرع } . رواه أحمد والنسائي ومعناه للبخاري من حديث ابن عمر ) .

حديث بلال رجاله رجال الصحيح . قوله : ( وبين الجدار ) أي جدار المسجد مما يلي القبلة ، وقد صرح بذلك البخاري في الاعتصام قوله : ( ممر شاة ) بالرفع وكان تامة أو ناقصة والخبر محذوف أو الظرف الخبر ، وأعربه الكرماني بالنصب على أن الممر خبر كان ، واسمها نحو قدر المسافة . قال : والسياق يدل عليه

وروى الإسماعيلي من طريق أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة { كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز } . وأصله في البخاري ، قال ابن بطال : هذا أقل ما يكون بين المصلي وسترته يعني قدر ممر الشاة وقيل : أقل ذلك ثلاثة أذرع لحديث ابن عمر عن بلال الذي أشار إليه المصنف

ولفظه في البخاري عن نافع " أن عبد الله [ ص: 7 ] كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل وجعل الباب قبل ظهره ، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى ، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه " . وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة وأكثره ثلاثة أذرع . وجمع بعضهم بأن ممر الشاة في حال القيام ، والثلاثة الأذرع في حال الركوع والسجود ، كذا قال ابن رسلان ، والظاهر أن الأمر بالعكس

قال ابن الصلاح : قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع . قال الحافظ : ولا يخفى ما فيه قال ابن رسلان : وثلث ذراع أقرب إلى المعنى من ثلاثة أذرع . قال البغوي : استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود ، وكذلك بين الصفوف ا هـ .

875 - ( وعن طلحة بن عبيد الله قال : { كنا نصلي والدواب تمر بين أيدينا ، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : مثل مؤخرة الرحل يكون بين يدي أحدكم ثم لا يضره ما مر بين يديه } . رواه أحمد ومسلم وابن ماجه ) . قوله : ( مثل مؤخرة الرحل ) قد تقدم ضبطه وتفسيره قوله : ( بين يدي أحدكم ) هذا مطلق والأحاديث التي فيها التقدير بممر الشاة وبثلاثة أذرع مقيدة لذلك قوله : ( ثم لا يضره ما مر بين يديه ) لأنه قد فعل المشروع من الإعلام بأنه يصلي

والمراد بقوله : " لا يضره " الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلي ، وفيه إشعار بأنه لا ينقص من صلاة من اتخذ سترة لمرور من مر بين يديه شيء وحصول النقصان إن لم يتخذ ذلك وسيأتي الكلام فيه ، وقد قيد بما إذا كان منفردا أو إماما ، وأما إذا كان مؤتما فسترة الإمام سترة له . وقد بوب البخاري وأبو داود لذلك

وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس مرفوعا : { سترة الإمام سترة لمن خلفه } وفي إسناده سويد بن عاصم ، وقد تفرد به وهو ضعيف .

وأخرج نحوه عبد الرزاق عن ابن عمر موقوفا عليه وروى عبد الرزاق التفرقة بين من يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة عن عمر ; لأن الذي يصلي إلى غير سترة مقصر بتركها ، لا سيما إن صلى إلى شارع المشاة

876 - ( وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا ، فإن لم يجد فلينصب عصا ، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ، ولا يضره ما مر بين يديه } رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) . [ ص: 8 ] الحديث أخرجه أيضا ابن حبان وصححه ، والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم . قال الحافظ : وأورده ابن الصلاح مثالا للمضطرب ، ونوزع في ذلك . قال في بلوغ المرام : ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل حسن قوله : ( فليجعل تلقاء وجهه شيئا ) فيه أن السترة لا تختص بنوع بل كل شيء ينصبه المصلي تلقاء وجهه يحصل به الامتثال كما تقدم قوله : ( فلينصب ) بكسر الصاد : أي يرفع أو يقم قوله : ( عصا ) ظاهره عدم الفرق بين الرقيقة والغليظة

ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : { استتروا في صلاتكم ولو بسهم } الحديث المتقدم

وقوله صلى الله عليه وسلم : { يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو برقة شعرة } أخرجه الحاكم وقال : على شرطهما قوله : ( فإن لم يكن معه عصا ) هكذا لفظ أبي داود وابن حبان ، ولفظ ابن ماجه " فإن لم يجد " قوله : ( فليخط ) هذا لفظ ابن ماجه ، ولفظ أبي داود " فليخطط " وصفة الخط ما ذكره أبو داود في سننه قال : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن وصف الخط غير مرة فقال : هكذا عرضا مثل الهلال . وسمعت مسددا قال : بل الخط بالطول . ا هـ

فاختار أحمد أن يكون مقوسا كالمحراب ويصلي إليه كما يصلي في المحراب واختار مسدد أن يكون مستقيما من بين يديه إلى القبلة . قال النووي في كيفيته : المختار ما قاله الشيخ أبو إسحاق أنه إلى القبلة لقوله في الحديث ( تلقاء وجهه ) واختار في التهذيب أن يكون من المشرق إلى المغرب . ولم ير مالك ولا عامة الفقهاء الخط ، كذا قال القاضي عياض ، واعتذروا عن الحديث بأنه ضعيف مضطرب ، وقالوا : الغرض الإعلام وهو لا يحصل بالخط

واختلف قول الشافعي ، فروي عنه استحبابه ، وروي عنه عدم ذلك . وقال جمهور أصحابه باستحبابه . قوله : ( ولا يضره ما مر بين يديه ) لفظ أبي داود " ثم لا يضره ما مر أمامه " ولفظ ابن حبان " من مر أمامه " وقد تقدم الكلام على هذا .

877 - ( وعن المقداد بن الأسود أنه قال : { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عود ولا عمود ، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيسر أو الأيمن ، ولا يصمد له صمدا } ) .

878 - ( وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء . } رواهما أحمد وأبو داود ) [ ص: 9 ] الحديث الأول في إسناده أبو عبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي قال المنذري : وفيه مقال ، وقال في التقريب : لين الحديث . والحديث الثاني أخرجه أيضا النسائي قال المنذري : وذكر بعضهم أن في إسناده مقالا قوله : ( إلى عود ) هو واحد العيدان قوله : ( ولا عمود ) هو واحد العمد قوله : ( الأيسر أو الأيمن ) قال ابن رسلان : ولعل الأيمن أولى ولهذا بدأ به في الحديث ، يعني في رواية أبي داود وعكس ذلك المصنف ، ولعلها رواية أحمد ، ويكفي في دعوى الأولوية حديث { أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله }

وفي الحديث استحباب أن تكون السترة على جهة اليمين أو اليسار قوله : ( ولا يصمد ) بفتح أوله وضم ثالثه والصمد في اللغة : القصد ، يقال : أصمد صمد فلان أي أقصد قصده : أي لا يجعله قصده الذي يصلي إليه تلقاء وجهه قوله : صلى الله عليه وسلم ( في فضاء ليس بين يديه شيء ) فيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب فيكون قرينة لصرف الأوامر إلى الندب ، ولكنه قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بنا ، وتلك الأوامر السابقة خاصة بالأمة فلا يصلح هذا الفعل أن يكون قرينة لصرفها

( فائدة ) اعلم أن ظاهر أحاديث الباب عدم الفرق بين الصحاري والعمران وهو الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من اتخاذه السترة سواء كان في الفضاء أو في غيره ، وحديث { أنه كان بين مصلاه وبين الجدار ممر شاة } ظاهر أن المراد في مصلاه في مسجده ; لأن الإضافة للعهد ، وكذلك حديث صلاته في الكعبة المتقدم ، فلا وجه لتقييد مشروعية السترة بالفضاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية