صفحة جزء
[ ص: 203 ] قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون

قوله تعالى : فلا أقسم أي أقسم ، و ( لا ) زائدة ، كما تقدم . بالخنس الجواري الكنس هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة ، فيما ذكر أهل التفسير . والله أعلم . وهو مروي عن علي كرم الله وجهه . وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان : أحدهما : لأنها تستقبل الشمس ; قاله بكر بن عبد الله المزني . الثاني : لأنها تقطع المجرة ; قاله ابن عباس . وقال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت ، وقاله علي - رضي الله عنه - ، قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل ; وتكنس في وقت غروبها ; أي تتأخر عن البصر لخفائها ، فلا ترى . وفي الصحاح : و ( الخنس ) : الكواكب كلها . لأنها تخنس في المغيب ، أو لأنها تخنس نهارا . ويقال : هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة . وقال الفراء في قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس : إنها النجوم الخمسة ; زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ; لأنها تخنس في مجراها ، وتكنس ، أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار ، وهو الكناس . ويقال : سميت خنسا لتأخرها ، لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم ، يقال : خنس عنه يخنس بالضم خنوسا : تأخر ، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه . والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، والرجل أخنس ، والمرأة خنساء ، والبقر كلها خنس . وقد روي عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس هي بقر الوحش . روى هشيم عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : قال لي عبد الله بن مسعود : إنكم قوم عرب فما الخنس ؟ قلت : هي بقر الوحش ; قال : وأنا أرى ذلك . وقال إبراهيم وجابر بن عبد الله . وروي عن ابن عباس : إنما أقسم الله ببقر الوحش . وروى عنه عكرمة قال : الخنس : البقر و ( الكنس ) : هي الظباء ، فهي خنس إذا رأين الإنسان خنسن وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهن . القشيري : وقيل على هذا الخنس من الخنس في الأنف ، وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة ، وأنوف البقر والظباء خنس . والأصح الحمل على النجوم ، لذكر الليل والصبح بعد هذا ، فذكر النجوم أليق بذلك .

قلت : لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد ، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك . وقد جاء عن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وهما صحابيان والنخعي أنها بقر الوحش .

[ ص: 204 ] وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنها الظباء . وعن الحجاج بن منذر قال : سألت جابر بن زيد عن الجواري الكنس ، فقال : الظباء والبقر ، فلا يبعد أن يكون المراد النجوم . وقد قيل : إنها الملائكة ; حكاه الماوردي .

والكنس الغيب ; مأخوذة من الكناس ، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه . قال أوس بن حجر :


ألم تر أن الله أنزل مزنه وعفر الظباء في الكناس تقمع

وقال طرفة :


كأن كناسي ضالة يكنفانها     وأطر قسي تحت صلب مؤيد

وقيل : الكنوس أن تأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء . قال الأعشى في ذلك :


فلما أتينا الحي أتلع أنس     كما أتلعت تحت المكانس ربرب

يقال : تلع . النهار ارتفع وأتلعت الظبية من كناسها : أي سمت بجيدها . وقال امرؤ القيس :


تعشى قليلا ثم أنحى ظلوفه     ويثير التراب عن مبيت ومكنس

والكنس : جمع كانس وكانسة ، وكذا الخنس جمع خانس وخانسة . والجواري : جمع جارية من جرى يجري .

والليل إذا عسعس قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر ; حكاه الجوهري . وقال بعض أصحابنا : إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض . المهدوي : والليل إذا عسعس أدبر بظلامه ; عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وروي عنهما أيضا وعن الحسن وغيره : أقبل بظلامه . زيد بن أسلم : عسعس ذهب . الفراء : العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير . الخليل وغيره : عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر . المبرد : هو من الأضداد ، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ، وهو ابتداء الظلام في أوله ، وإدباره في آخره ; وقال علقمة بن قرط :


حتى إذا الصبح لها تنفسا     وانجاب عنها ليلها وعسعسا

وقال رؤبة :


يا هند ما أسرع ما تسعسعا     من بعد ما كان فتى سرعرعا

وهذه حجة الفراء . وقال امرؤ القيس :


[ ص: 205 ] عسعس حتى لو يشاء ادنا     كان لنا من ناره مقبس

فهذا يدل على الدنو . وقال الحسن ومجاهد : عسعس : أظلم ، قال الشاعر :


حتى إذا ما ليلهن عسعسا     ركبن من حد الظلام حندسا

الماوردي : وأصل العس الامتلاء ; ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه ، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه ; وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه على ظلامه ; لاستكمال امتلائه به . وأما قول امرئ القيس :


ألما على الربع القديم بعسعسا      [ كأني أنادي أو أكلم أخرسا ]

فموضع بالبادية . وعسعس أيضا اسم رجل ; قال الراجز :


    وعسعس نعم الفتى تبياه

أي تعتمده . ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس ; لأنه يعس بالليل ويطلب . ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل . قال أبو عمرو : والتعسعس الشم ، وأنشد :


كمنخر الذنب إذا تعسعسا

والتعسعس أيضا : طلب الصيد بالليل .

قوله تعالى : والصبح إذا تنفس أي امتد حتى يصير نهارا واضحا ; يقال للنهار إذا زاد : تنفس . وكذلك الموج إذا نضح الماء . ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف . وقيل : إذا تنفس أي انشق وانفلق ; ومنه تنفست القوس أي تصدعت .

إنه لقول رسول كريم هذا جواب القسم . والرسول الكريم جبريل ; قاله الحسن وقتادة والضحاك . والمعنى إنه لقول رسول عن الله كريم على الله . وأضاف الكلام إلى جبريل - عليه السلام - ، ثم عداه عنه بقوله تنزيل من رب العالمين ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله - عز وجل - . وقيل : هو محمد عليه الصلاة والسلام .

( ذي قوة ) من جعله جبريل فقوته ظاهرة فروى الضحاك عن ابن عباس قال : من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه .

عند ذي العرش أي عند الله جل ثناؤه مكين أي ذي منزلة ومكانة ; فروي عن أبي صالح قال : يدخل سبعين سرادقا بغير إذن .

مطاع أي في السماوات ; قال ابن عباس : من طاعة الملائكة جبريل ، أنه لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جبريل - عليه السلام - لرضوان خازن الجنان : افتح له ، ففتح ، فدخل ورأى ما فيها ، وقال لمالك خازن النار : افتح له جهنم حتى ينظر إليها ، فأطاعه وفتح له .

( أمين ) أي مؤتمن على الوحي الذي يجيء به . ومن قال : إن المراد [ ص: 206 ] محمد - صلى الله عليه وسلم - فالمعنى ( ذي قوة ) على تبليغ الرسالة مطاع أي يطيعه من أطاع الله جل وعز .

وما صاحبكم بمجنون يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - بمجنون حتى يتهم في قوله . وهو من جواب القسم . وقيل : أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرى جبريل في الصورة التي يكون بها عند ربه جل وعز فقال : ما ذاك إلي ; فأذن له الرب جل ثناؤه ، فأتاه وقد سد الأفق ، فلما نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - خر مغشيا عليه ، فقال المشركون : إنه مجنون ، فنزلت : إنه لقول رسول كريم وما صاحبكم بمجنون وإنما رأى جبريل على صورته فهابه ، وورد عليه ما لم تحتمل بنيته ، فخر مغشيا عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية