صفحة جزء
قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون

قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون : كلا : ردع وزجر ، أي ليس هو أساطير الأولين . وقال الحسن : معناها حقا ران على قلوبهم . وقيل : في الترمذي : عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب ، صقل قلبه ، فإن عاد زيد . فيها ، حتى تعلو على قلبه ، وهو الران الذي ذكر الله في كتابه : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . قال : هذا حديث حسن صحيح . وكذا قال المفسرون : هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب .

قال مجاهد : هو الرجل يذنب الذنب ، فيحيط الذنب بقلبه ، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه ، حتى تغشي الذنوب قلبه . قال مجاهد : هي مثل الآية التي في سورة البقرة : بلى من كسب سيئة الآية . ونحوه عن الفراء ; قال : يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب ، فأحاطت بقلوبهم ، فذلك الرين عليها . وروي عن مجاهد أيضا قال : القلب مثل الكهف ورفع كفه ، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض ، وضم إصبعه ، فإذا أذنب الذنب انقبض ، وضم أخرى ، حتى ضم أصابعه كلها ، حتى يطبع على قلبه . قال : وكانوا يرون أن ذلك هو الرين ، ثم قرأ : [ ص: 223 ] كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . ومثله عن حذيفة - رضي الله عنه - سواء . وقال بكر بن عبد الله : إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة ، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك ، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل ، أو كالغربال ، لا يعي خيرا ، ولا يثبت فيه صلاح . وقد بينا في ( البقرة ) القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا معنى لإعادتها .

وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته ; قال : هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم ، وهو الذي يلبس في الحرب .قال : وقال آخرون : الران : الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل . وهذا مما لا يضمن عهدة صحته . فالله أعلم .

فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا . وكذلك أهل اللغة عليه ; يقال : ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب . قال أبو عبيدة في قوله : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون أي غلب ; وقال أبو عبيد : كل ما غلبك وعلاك فقد ران بك ، ورانك ، وران عليك ; وقال الشاعر :


وكم ران من ذنب على قلب فاجر فتاب من الذنب الذي ران وانجلى

ورانت الخمر على عقله : أي غلبته ، وران عليه النعاس : إذا غطاه ; ومنه قول عمر في الأسيفع - أسيفع جهينة - : فأصبح قد رين به . أي غلبته الديون ، وكان يدان ; ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا ، فقال :


ثم لما رآه رانت به الخم     ر وأن لا ترينه باتقاء

فقوله : رانت به الخمر ، أي غلبت على عقله وقلبه . وقال الأموي : قد أران القوم فهم مرينون : إذا هلكت مواشيهم وهزلت . وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم ، فلا يستطيعون احتماله . قال أبو زيد يقال : قد رين بالرجل رينا : إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ، ولا قبل له وقال أبو معاذ النحوي : الرين : أن يسود القلب من الذنوب ، والطبع أن يطبع على القلب ، وهذا أشد من الرين ، والإقفال أشد من الطبع . الزجاج : الرين : هو كالصدأ يغشي القلب كالغيم الرقيق ، ومثله الغين ، يقال : غين على قلبه : غطي . والغين : شجر ملتف ، الواحدة غيناء ، أي خضراء ، كثيرة الورق ، ملتفة الأغصان . وقد تقدم قول الفراء : إنه إحاطة الذنب بالقلوب . وذكر الثعلبي عن ابن عباس : ران على قلوبهم : أي غطى عليها . وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل ( ران ) بالإمالة ; لأن فاء الفعل الراء ، وعينه الألف منقلبة من ياء ، فحسنت الإمالة لذلك . ومن فتح فعلى [ ص: 224 ] الأصل ; لأن باب فاء الفعل في ( فعل ) الفتح ، مثل كال وباع ونحوه . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص ( بل ) ثم يبتدئ ( ران ) وقفا يبين اللام ، لا للسكت .

قوله تعالى : ( كلا ) أي حقا إنهم يعني الكفار عن ربهم يومئذ أي يوم القيامة لمحجوبون . وقيل : كلا ردع وزجر ، أي ليس كما يقولون ، بل إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . قال الزجاج : في هذه الآية دليل على أن الله - عز وجل - يرى في القيامة ، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة ، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون . وقال جل ثناؤه : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فأعلم الله - جل ثناؤه - أن المؤمنين ينظرون إليه ، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه ، وقال مالك بن أنس في هذه الآية : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقال الشافعي : لما حجب قوما بالسخط ، دل على أن قوما يرونه بالرضا . ثم قال : أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا . وقال الحسين بن الفضل : لما حجبهم في الدنيا عن نور توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته . وقال مجاهد في قوله تعالى : لمحجوبون : أي عن كرامته ورحمته ممنوعون . وقال قتادة : هو أن الله لا ينظر إليهم برحمته ، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم . وعلى الأول الجمهور ، وأنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه .

ثم إنهم لصالو الجحيم أي ملازموها ، ومحترقون فيها غير خارجين منها ، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها و كلما خبت زدناهم سعيرا . ويقال : الجحيم الباب الرابع من النار .

ثم يقال لهم أي تقول لهم خزنة جهنم هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية