صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب [ ص: 192 ] من حيث لا يشعرون ( 26 ) )

يقول تعالى ذكره : قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدون عن سبيل الله ، من أراد اتباع دين الله ، فراموا مغالبة الله ببناء بنوه ، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها ، وكان الذي رام ذلك فيما ذكر لنا جبار من جبابرة النبط ، فقال بعضهم : هو نمرود بن كنعان ، وقال بعضهم : هو بختنصر ، وقد ذكرت بعض أخبارهما في سورة إبراهيم . وقيل : إن الذي ذكر في هذا الموضع هو الذي ذكره الله في سورة إبراهيم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : أمر الذي حاج إبراهيم في ربه بإبراهيم فأخرج ، يعني من مدينته ، قال : فلقي لوطا على باب المدينة وهو ابن أخيه ، فدعاه فآمن به ، وقال : إني مهاجر إلى ربي ، وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أربعة أفراخ من فراخ النسور ، فرباهن باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعلجن ، فربطهن في تابوت ، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهن رجلا من لحم ، فطرن ، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض ، فرأى الجبال تدب كدبيب النمل ، ثم رفع لهن اللحم ، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء ، ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه وما تحته ، ففزع ، فألقى اللحم ، فاتبعته منقضات ، فلما نظرت الجبال إليهن ، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهن ، فزعت الجبال ، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) وهي في قراءة ابن مسعود : "وإن كاد مكرهم" . فكان طيرورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان ، فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح ، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر ، يزعم إلى إله إبراهيم ، فأحدث ، ولم يكن يحدث وأخذ الله بنيانه من القواعد ( فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) يقول : من مأمنهم ، وأخذهم من أساس الصرح ، فتنقض بهم ، فسقط ، فتبلبلت ألسن [ ص: 193 ] الناس يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سميت بابل ، وإنما كان لسان الناس من قبل ذلك بالسريانية .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي . عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد ) قال : هو نمرود حين بنى الصرح .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم : إن أول جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربع مئة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، أرحم الناس به من جمع يديه ، فضرب رأسه بهما ، وكان جبارا أربع مئة سنة ، فعذبه الله أربع مئة سنة كملكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ) . وأما قوله ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) فإن معناه : هدم الله بنيانهم من أصله ، والقواعد : جمع قاعدة ، وهي الأساس ، وكان بعضهم يقول : هذا مثل للاستئصال ، وإنما معناه : إن الله استأصلهم ، وقال : العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء .

وقوله : ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فخر عليهم السقف من فوقهم : أعالي بيوتهم من فوقهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد ) إي والله ، لأتاها أمر الله من أصلها ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) والسقف : أعالي البيوت ، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون )

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) قال : أتى الله بنيانهم من أصوله ، فخر عليهم السقف .

[ ص: 194 ] حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ) قال : مكر نمرود بن كنعان الذي حاج إبراهيم في ربه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : عنى بقوله ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) أن العذاب أتاهم من السماء .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) يقول : عذاب من السماء لما رأوه استسلموا وذلوا .

وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : معنى ذلك : تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله ، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان ، وخر السقف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وجد إليه سبيل ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) يقول تعالى ذكره : وأتى هؤلاء الذين مكروا من قبل مشركي قريش ، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية