صفحة جزء
باب في الوضوء بالمد

56 وحدثنا أحمد بن منيع وعلي بن حجر قالا حدثنا إسمعيل ابن علية عن أبي ريحانة عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع قال وفي الباب عن عائشة وجابر وأنس بن مالك قال أبو عيسى حديث سفينة حديث حسن صحيح وأبو ريحانة اسمه عبد الله بن مطر وهكذا رأى بعض أهل العلم الوضوء بالمد والغسل بالصاع وقال الشافعي وأحمد وإسحق ليس معنى هذا الحديث على التوقي أنه لا يجوز أكثر منه ولا أقل منه وهو قدر ما يكفي
قوله : ( قالا نا إسماعيل ابن علية ) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم أبو بشر المعروف بابن علية ، ثقة حافظ ، من الثامنة ( عن أبي ريحانة ) اسمه عبد الله بن مطر البصري ، مشهور بكنيته ، صدوق تغير بأخرة ، من الثالثة ( عن سفينة ) هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنى أبا عبد الرحمن يقال كان اسمه مهران أو غير ذلك فلقب سفينة لكونه حمل شيئا كبيرا في السفر ، مشهور له أحاديث .

[ ص: 152 ] قوله : ( كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ) قال الحافظ في فتح الباري : المد بضم الميم وتشديد الدال إناء يسع رطلا وثلثا بالبغدادي ، قاله جمهور أهل العلم ، وخالف بعض الحنفية فقالوا المد رطلان . انتهى . وقال العيني في عمدة القاري : وهو أي المد رطلان عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي رطل وثلث بالعراق ، وأما الصاع فعند أبي يوسف خمسة أرطال وثلث رطل عراقية ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة ومحمد : الصاع ثمانية أرطال . انتهى . وقال العيني معترضا على الحافظ ما لفظه : مذهب أبي حنيفة أن المد رطلان ، وما خالف أبو حنيفة أصلا لأنه يستدل في ذلك بما رواه جابر قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال " أخرجه ابن عدي ، وبما رواه أنس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد رطلين ، ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال " أخرجه الدارقطني . انتهى كلام العيني . قلت : هذان الحديثان ضعيفان لا تقوم بهما الحجة ، أما حديث جابر فأخرجه ابن عدي في الكامل عن عمران بن موسى بن وجيه الوجيهي عن عمرو بن دينار عنه ، وضعف عمران بن موسى هنا عن البخاري والنسائي وابن معين ووافقهم وقال إنه في عداد من يضع الحديث كذا في نصب الراية ، وقال الحافظ في الدراية : فيه عمران بن موسى وهو هالك . انتهى . وأما حديث أنس فقال الحافظ في الدراية بعد ذكره : هو من رواية ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن أنس وإسناده ضعيف ، وأخرجه أيضا من طريق أخرى وفيه موسى بن نصر وهو ضعيف جدا ، والحديث في الصحيحين عن أنس ليس فيه ذكر الوزن . انتهى كلام الحافظ . وقال الزيلعي في نصب الراية : أخرجه الدارقطني في سننه من ثلاثة طرق ثم ذكرها ثم قال : وضعف البيهقي هذه الأسانيد الثلاثة ، وقال : الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . انتهى كلام الزيلعي . والعجب من العيني أنه استدل لأبي حنيفة بهذين الحديثين الضعيفين ولم يذكر ما فيهما من المقال الذي يسقطهما عن الاحتجاج .

واستدل لأبي حنيفة بما رواه الدارقطني عن صالح بن موسى الطلحي : حدثنا منصور بن المعتمر عن إبراهيم عن عائشة قالت : " جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل من الجنابة صاع من ثمانية أرطال وفي الوضوء رطلان " وهذا الحديث أيضا ضعيف ، قال الدارقطني بعد روايته لم يروه عن منصور غير صالح وهو ضعيف الحديث . انتهى . [ ص: 153 ] والحاصل : أنه لم يقم دليل صحيح على ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المد رطلان لذلك ترك الإمام أبو يوسف مذهبه واختار ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أن المد رطل وثلث رطل ، قال البخاري في صحيحه : باب صاع المدينة ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته وما توارث أهل المدينة من ذلك قرنا بعد قرن . انتهى .

قال العيني في عمدة القاري : قوله وما توارث أهل المدينة أي بيان ما توارث أهل المدينة قرنا أي جيلا بعد جيل على ذلك ، ولم يتغير إلى زمنه ، ألا ترى أن أبا يوسف لما اجتمع مع مالك في المدينة فوقعت بينهما المناظرة في قدر الصاع فزعم أبو يوسف أنه ثمانية أرطال وقام مالك ودخل بيته وأخرج صاعا وقال هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو يوسف فوجدته خمسة أرطال وثلثا فرجع أبو يوسف إلى قول مالك وخالف صاحبيه في هذا . انتهى كلام العيني .

وأخرج الطحاوي في شرح الآثار ، قال : حدثنا ابن أبي عمران قال أخبرنا علي بن صالح وبشر بن الوليد جميعا عن أبي يوسف قال : قدمت المدينة فأخرجه إلى من أثق به صاعا فقال هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم فقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل ، وسمعت ابن أبي عمران يقول : يقال إن الذي أخرج هذا لأبي يوسف هو مالك بن أنس . انتهى .

وقال الحافظ في التلخيص الحبير : قوله الدليل على أن الصاع خمسة أرطال وثلث فقط بنقل أهل المدينة خلفا عن سلف ولمالك مع أبي يوسف فيه قصة مشهورة ، والقصة رواها البيهقي بإسناد جيد ، وأخرج ابن خزيمة والحاكم من طريق عروة عن أسماء بنت أبي بكر أمه أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمد الذي يقتات به أهل المدينة ، وللبخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يعطي زكاة رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمد الأول . انتهى ما في التلخيص .

وقال الزيلعي في نصب الراية : والمشهور ما أخرجه البيهقي عن الحسين بن الوليد القرشي - وهو ثقة - قال : قدم علينا أبو يوسف من الحج فقال إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم أهمني ففحصت عنه فقدمت المدينة فسألت عن الصاع فقالوا صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت لهم ما حجتكم في ذلك فقالوا نأتيك بالحجة غدا فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه ، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت فإذا هي سواء ، قال فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان يسير فرأيت أمرا قويا فتركت قول أبي حنيفة رضي الله عنه في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة . هذا هو المشهور من قول أبي يوسف .

[ ص: 154 ] وقد روي أن مالكا رضي الله عنه ناظره واستدل عليه بالصيعان التي جاء بها أولئك الرهط فرجع أبو يوسف إلى قوله ، وقال عثمان بن سعيد الدارمي سمعت علي بن المديني يقول : عيرت صاع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل بالثمر . انتهى ما في نصب الراية .

وروى البخاري في صحيحه ص 280 ج 7 بإسناده عن السائب بن يزيد أنه كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا بمدكم اليوم فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز .

قال الحافظ في الفتح : قال ابن بطال هذا يدل على أن مدهم حين حدث به السائب كان أربعة أرطال فإذا زيد عليه ثلثه وهو رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث ، وهو الصاع بدليل أن مده صلى الله عليه وسلم رطل وثلث وصاعه أربعة أمداد . انتهى .

ثم روى البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر يعطي زكاة رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول وفي كفارة اليمين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو قتيبة : قال لنا مالك مدنا أعظم من مدكم ولا نرى الفضل إلا في مد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال لي مالك : لو جاءكم أمير فضرب مدا أصغر من مد النبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء كنتم تعطون؟ قلت : كنا نعطي بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أفلا ترى أن الأمر إنما يعود إلى مد النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى .

ويأتي باقي الكلام فيما يتعلق بالمد والصاع في باب صدقة الفطر .

قوله : ( وفي الباب عن عائشة وجابر وأنس بن مالك ) أما حديث عائشة فأخرجه الشيخان قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال له الفرق ، ولها روايات أخرى ففي بعضها : كان يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك ، وفي أخرى يغسله الصاع ويوضئه المد .

وأما حديث جابر فأخرجه أحمد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزئ من الغسل الصاع ومن الوضوء المد كذا في المنتقى . وقال الشوكاني : وأخرجه أبو داود وابن خزيمة وابن ماجه بنحوه وصححه ابن القطان .

وأما حديث أنس فأخرجه الشيخان قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد .

قوله : ( حديث سفينة حديث حسن صحيح ) وأخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه كذا في المنتقى .

[ ص: 155 ] قوله : ( هكذا رأى بعض أهل العلم الوضوء بالمد والغسل بالصاع ) أي بالتوقيت والتحديد ( وقال الشافعي وأحمد وإسحاق ليس معنى هذا الحديث على التوقيت إلخ ) هذا القول هو الراجح المعول عليه ، قال ابن حجر : قد روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد هو الفرق .

قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما هو ثلاثة آصع ، وروى مسلم أيضا من حديثها أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد ، فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة ، وفيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب كابن شعبان من المالكية ، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع ، وحمله الجمهور على الاستحباب لأن أكثر من قدر وضوءه وغسله صلى الله عليه وسلم من الصحابة قدرهما بذلك ، ففي مسلم عن سفينة مثله ، ولأحمد وأبي داود بإسناد صحيح عن جابر مثله .

وفي الباب عن عائشة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وغيرهم ، وهذا إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة ، وهو أيضا في حق من يكون خلقه معتدلا . انتهى كلام الحافظ .

واعترض العيني على قوله : فيه رد على من قدر الوضوء والغسل بما ذكر إلخ بأنه لا رد فيه على من قال به من الحنفية ؛ لأنه لم يقل ذلك بطريق الوجوب كما قال ابن شعبان بطريق الوجوب ، فإنه قال : لا يجزئ أقل من ذلك ، وأما من قال به من الحنفية فهو محمد بن الحسن فإنه روي عنه أنه قال إن المغتسل لا يمكن أن يعم جسده بأقل من مد ، وهذا يختلف باختلاف أجساد الأشخاص . انتهى كلام العيني ، قلت : قول محمد بن الحسن المذكور يدل دلالة ظاهرة على أنه قال ذلك بطريق الوجوب ، فإنه إذا كان لا يمكن عنده أن يعم المغتسل جسده بأقل من مد وجب أن يكون الماء مدا أو أكثر ولا يجزئ أقل من ذلك ، وأما قول العيني : وهذا يختلف باختلاف أجساد الأشخاص . فلا يجدي نفعا لأن محمد بن الحسن لم يخص مغتسلا عن مغتسل فتفكر ، ثم قال العيني : إن الروايات مختلفة في هذا الباب ، ففي رواية أبي داود من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد ، وفي حديث [ ص: 156 ] أم عمارة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي المد ، وفي رواية ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد من ماء فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، وذكر روايات كثيرة مختلفة; ثم قال : قال النووي : قال الشافعي وغيره من العلماء الجمع بين هذه الروايات أنها كانت اغتسالات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله فدل على أنه لا حد في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه ، ثم قال الإجماع قائم على ذلك . انتهى .

قلت : في دعوى الإجماع كلام ، كيف وقد عرفت مذهب ابن شعبان وبعض الحنفية .

التالي السابق


الخدمات العلمية