صفحة جزء
باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا

146 حدثنا أبو سعيد عبد الله بن سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث وعقبة بن خالد قالا حدثنا الأعمش وابن أبي ليلى عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا قال أبو عيسى حديث علي هذا حديث حسن صحيح وبه قال غير واحد من أهل العلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين قالوا يقرأ الرجل القرآن على غير وضوء ولا يقرأ في المصحف إلا وهو طاهر وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق
قوله : ( حدثنا أبو سعيد الأشج ) اسمه عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي أحد الأئمة ، روى عن عبد السلام بن حرب وأبي خالد الأحمر وغيرهما ، وعنه الأئمة الستة ، قال أبو حاتم : ثقة إمام أهل زمانه ، قيل مات سنة 257 سبع وخمسين ومائتين .

( وعقبة بن خالد ) بن عقبة السكوني أبو مسعود الكوفي المجدر بالجيم المفتوحة ، روى عن هشام والأعمش ، وعنه أحمد وإسحاق وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم ، وثقه أبو حاتم ، مات سنة 188 ثمان وثمانين ومائة .

( وابن أبي ليلى ) اعلم أن ابن أبي ليلى يطلق على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعلى أبيه ، وعلى أخيه عيسى ، وعلى ابن أخيه عبد الله بن عيسى ، والمراد هاهنا هو الأول وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن ، صدوق سيئ الحفظ جدا ، قاله الحافظ في التقريب ، وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته : " روى عن أخيه عيسى وابن أخيه عبد الله بن عيسى ونافع مولى ابن عمر وعمرو بن مرة ، وذكر كثيرا من شيوخه وتلامذته ثم ذكر أقوال الحفاظ فيه ما محصلها : أنه صدوق سيئ الحفظ ، فقيه ، وقال أحمد بن حنبل : فقهه أحب إلينا من حديثه .

( عن عمرو بن مرة ) بن عبد الله بن طارق الجملي المرادي الكوفي الأعمى ، ثقة عابد كان لا يدلس ورمي بالإرجاء .

( عن عبد الله بن سلمة ) بكسر اللام المرادي الكوفي صدوق تغير حفظه ، من الثانية ، روى عن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم ، وعنه عمرو بن مرة وأبو إسحاق السبيعي وأبو الزبير ، قال البخاري : لا يتابع في حديثه ، وثقه العجلي ، كذا في التقريب وفي الخلاصة .

قوله : ( يقرئنا القرآن ) من الإقراء ، أي يعلمنا ( على كل حال ) أي متوضئا كان أو غير متوضئ .

( ما لم يكن جنبا ) وفي رواية أبي داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن [ ص: 386 ] ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه أو قال يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة .

فإن قيل : حديث عائشة الذي رواه مسلم عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ، وعلقه البخاري يخالف حديث علي هذا فإنه يدل بظاهره على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حال الجنابة أيضا ، فإن قولها على كل أحيانه يشمل حالة الجنابة أيضا ، وقولها يذكر الله يشمل تلاوة القرآن أيضا .

يقال : إن حديث عائشة يخصص بحديث علي هذا فيراد بذكر الله غير تلاوة القرآن ، قال العيني : حديث عائشة لا يعارض حديث علي لأنها أرادت الذكر الذي غير القرآن ، انتهى . وقال صاحب سبل السلام : حديث عائشة قد خصصه حديث علي عليه السلام وأحاديث أخرى . وكذلك هو مخصص بحالة الغائط والبول والجماع ، والمراد بكل أحيانه معظمها كما قال الله تعالى : يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم . انتهى ، وقال في شرح حديث الباب أخرج أبو يعلى من حديث علي عليه السلام قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال : هكذا لمن ليس بجنب ؛ لأنه نهي ، وأما الجنب فلا ولا آية قال الهيثمي : رجاله موثوقون ، وهو يدل على التحريم ؛ لأنه نهي وأصله ذلك ويعاضد ما سلف ، انتهى .

قوله : ( حديث علي حديث حسن صحيح ) وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، وقال المنذري وذكر أبو بكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة ، وحكى البخاري عن عمرو بن مرة كان عبد الله -يعني ابن سلمة - يحدثنا فنعرف وننكر ، وكان قد كبر لا يتابع في حديثه ، وذكر الإمام الشافعي رضي الله عنه هذا الحديث وقال : لم يكن أهل الحديث يثبتونه ، قال البيهقي : وإنما توقف الشافعي في ثبوت هذا الحديث ؛ لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي ، وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكرة ، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر ، قاله شعبة ، هذا آخر كلامه ، وذكر الخطابي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يوهن حديث علي هذا ويضعف أمر عبد الله بن سلمة . انتهى كلام المنذري .

قوله : ( قالوا يقرأ الرجل القرآن على غير وضوء ) أي يجوز له أن يقرأ على غير وضوء ، واستدلوا على ذلك بحديث الباب .

( ولا يقرأ في المصحف ) أي أخذا بيده وما شابه فإنه إذا لم يمسه [ ص: 387 ] ويقرأ ناظرا فيه فهو جائز .

( إلا وهو طاهر ) أي متوضئ ( وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ) وهو قول أبي حنيفة وبه يقول مالك ، قال في الموطأ ولا يحمل أحد المصحف بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر ولو جاز ذلك لحل في خبيئته . قال : وإنما كره ذلك لمن يحمله وهو غير طاهر إكراما للقرآن وتعظيما له ، انتهى . واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان فيه : " لا يمس القرآن إلا طاهر " رواه الأثرم والدارقطني ، وهو لمالك في الموطأ مرسلا عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر . وقال الأثرم : واحتج أبو عبد الله -يعني أحمد - بحديث ابن عمر : " ولا يمس المصحف إلا على طهارة " ، كذا في المنتقى . قال ابن عبد البر : لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث . وقد روي مسندا من وجه صالح وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد ؛ لأنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ، ولا يصح عليهم تلقي ما لا يصح ، انتهى . قلت : لا شك في أن هذا الحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف إلا لمن كان طاهرا ، ولكن الطاهر يطلق بالاشتراك على المؤمن والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر ومن ليس على بدنه نجاسة ، ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى : إنما المشركون نجس وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : المؤمن لا ينجس وعلى الثاني وإن كنتم جنبا فاطهروا وعلى الثالث قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين وعلى الرابع الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهرا ، وقد ورد إطلاق ذلك في كثير ، والذي يترجح أن المشترك مجمل في معانيه فلا يعمل به حتى يبين ، وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثا أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود ، وأما المحدث حدثا أصغر فذهب ابن عباس والشعبي والضحاك إلى أنه يجوز له مس المصحف . وقال القاسم وأكثر الفقهاء لا يجوز ، كذا في النيل . قلت : القول الراجح عندي قول أكثر الفقهاء وهو الذي يقتضيه تعظيم القرآن وإكرامه ، والمتبادر من لفظ الطاهر في هذا الحديث هو المتوضئ وهو الفرد الكامل للطاهر ، والله تعالى أعلم . وقال القاري في شرح قوله لا يمس القرآن إلا طاهر ما لفظه : بخلاف غيره كالجنب والمحدث فإنه ليس له أن يمسه إلا بغلاف متجاف ، وكره بالكم . قال الطيبي بيان لقوله تعالى : لا يمسه إلا المطهرون فإن الضمير إما للقرآن والمراد نهي الناس عن مسه إلا على الطهارة وإما للوح ، ولا نافية ، ومعنى المطهرون الملائكة [ ص: 388 ] فإن الحديث كشف أن المراد هو الأول ويعضده مدح القرآن بالكرم وبكونه ثابتا في اللوح المحفوظ ، فيكون الحكم بكونه لا يمسه مرتبا على الوصفين المتناسبين للقرآن . انتهى ما في المرقاة .

تنبيه : قال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر الحديث المذكور الذي استدل به الأكثرون على عدم جواز مس القرآن لغير المتوضئ ما لفظه : رواه مالك مرسلا ووصله النسائي وابن حبان وهو معلول ، انتهى . قال صاحب السبل : وإنما قال المصنف إن هذا الحديث معلول ؛ لأنه من رواية سليمان بن داود وهو متفق على تركه كما قاله ابن حزم ، ووهم في ذلك ، فإنه ظن أنه سليمان بن داود اليماني وليس كذلك ، بل هو سليمان بن داود الخولاني وهو ثقة أثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ ، وكتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول قال ابن عبد البر : إنه أشبه المتواتر لتلقي الناس له بالقبول ، وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم ، وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري بالصحة بهذا الكتاب .

وفي الباب من حديث حكيم بن حزام " لا يمس القرآن إلا طاهر " ، وإن كان في إسناده مقال إلا أنه ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد من حديث عبد الله بن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر قال الهيثمي : رجاله موثوقون وذكر له شاهدين ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية