صفحة جزء
ذكر من توفي فيها من الأعيان :

جرير الشاعر

وهو جرير بن الخطفى ويقال : جرير بن عطية بن الخطفى . واسم الخطفى حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ، أبو حزرة الشاعر البصري ، قدم دمشق مرارا ، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده ، ووفد على عمر بن عبد العزيز وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنون الفرزدق ، والأخطل ، وكان جرير أشعرهم وأخيرهم .

قال غير واحد : هو أشعر الثلاثة .

قال ابن دريد ، ثنا الأشنانداني ، ثنا التوزي ، عن أبي عبيدة ، عن عثمان البتي ، قال : رأيت جريرا وما تضم شفتاه من التسبيح ، فقلت : وما ينفعك هذا [ ص: 42 ] وأنت تقذف المحصنة ؟ ! فقال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 114 ] ، وعد من الله حق .

وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال : دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة ، وعنده الشعراء الثلاثة جرير ، والفرزدق ، والأخطل فلم يعرفهم الأعرابي ، فقال عبد الملك للأعرابي : هل تعرف أهجى بيت في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

فقال : أحسنت ، فهل تعرف أمدح بيت قيل في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

فقال : أصبت وأحسنت ، فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


إن العيون التي في طرفها مرض     قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به     وهن أضعف خلق الله أركانا

فقال : أحسنت ، فهل تعرف جريرا ؟ قال : لا والله وإني إلى رؤيته لمشتاق . قال : فهذا جرير وهذا الأخطل وهذا الفرزدق . فأنشأ الأعرابي [ ص: 43 ] يقول :


فحيا الإله أبا حرزة     وأرغم أنفك يا أخطل
وجد الفرزدق أتعس به     ودق خياشيمه الجندل

فأنشأ الفرزدق يقول :


يا أرغم الله أنفا أنت حامله     يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل
ما أنت بالحكم الترضى حكومته     ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

ثم أنشأ الأخطل يقول :


يا شر من حملت ساق على قدم     ما مثل قولك في الأقوام يحتمل
إن الحكومة ليست في أبيك ولا     في معشر أنت منهم إنهم سفل

فقام جرير مغضبا وهو يقول :


شتمتما قائلا بالحق مهتديا     عند الخليفة والأقوال تنتضل
أتشتمان سفاها خيركم حسبا     ففيكما وإلهي الزور والخطل
شتمتماه على رفعي ووضعكما     لا زلتما في سفال أيها السفل

ثم وثب جرير فقبل رأس الأعرابي ، وقال : يا أمير المؤمنين ، جائزتي له . وكانت خمسة عشر ألفا ، فقال عبد الملك : وله مثلها من مالي . فقبض الأعرابي ذلك كله ، وخرج .

[ ص: 44 ] وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه :


ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاة ; أربعة من النوبة ، وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد . قال جرير وبين يدي عبد الملك جامات من فضة قد أهديت له ، وهو لا يعبأ بها شيئا ، فهو يقرعها بقضيب في يده فقلت : يا أمير المؤمنين المحلب ، فألقى إلي واحدة من تلك الجامات ، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له ، فأطلق له خمسين ناقة تحمل طعاما لأهله .

وحكى نفطويه أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الأخطل فقال بشر لجرير : أتعرف هذا ؟ قال : لا ، ومن هذا أيها الأمير ؟ فقال : هذا الأخطل . فقال الأخطل : أنا الذي شتمت عرضك ، وأسهرت ليلك ، وآذيت قومك . فقال جرير : أما قولك : شتمت عرضك . فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه ، وأما قولك : وأسهرت ليلك . فلو تركتني أنام لكان خيرا لك ، وأما قولك : وآذيت قومك . فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم ؟ ! وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة ، قبحه الله وأبعد مثواه .

[ ص: 45 ] وقال الهيثم بن عدي ، عن عوانة بن الحكم قال : لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم ، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم ، فمر بهم رجاء بن حيوة فقال له جرير :


يا أيها الرجل المرخي عمامته     هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا

فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئا ، فمر بهم عدي بن أرطاة فقال له جرير منشدا :


يا أيها الراكب المزجي مطيته     هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه     أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لاقيت مغفرة     قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني

فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال : يا أمير المؤمنين ، الشعراء ببابك ، وسهامهم مسمومة ، وأقوالهم نافذة . فقال : ويحك يا عدي ! مالي وللشعراء . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه ، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه ، فأعطاه حلة . فقال له عمر : أتروي منها شيئا ؟ قال : نعم . فأنشده :


رأيتك يا خير البرية كلها     نشرت كتابا جاء بالحق معلما
[ ص: 46 ] شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا     عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالبرهان أمرا مدلسا     وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا     وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه     وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا     وكان مكان الله أعلى وأعظما

فقال عمر : ويحك يا عدي ! من بالباب منهم ؟ فقال : عمر بن أبي ربيعة فقال : أليس هو الذي يقول :


ثم نبهتها فهبت كعابا     طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت     ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسري     تتخطى إلى رءوس النيام
ما تجشمت ما تريد من الأم     ر ولا جئت طارقا لخصام

فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه ! لا يدخل علي والله أبدا . فمن بالباب سواه ؟ قال : همام بن غالب - يعني الفرزدق - فقال عمر : أوليس هو الذي يقول :


هما دلتاني من ثمانين قامة     كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا     أحي يرجى أم قتيل نحاذره

لا يطأ والله بساطي وهو كاذب . فمن سواه بالباب ؟ قال : الأخطل . قال : [ ص: 47 ] أوليس هو الذي يقول :


ولست بصائم رمضان طوعا     ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا بكورا     إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتا بعيدا     بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو     قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا     وأسجد عند منبلج الصباح

والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا . فهل بالباب سوى من ذكرت ؟ قال : نعم ، الأحوص قال : أليس هو الذي يقول :


الله بيني وبين سيدها     يفر مني بها وأتبعه

فما هو دون من ذكرت ، فمن هاهنا غيره ؟ قال : جميل بن معمر . قال : الذي يقول :


ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت     يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب     إذا قيل قد سوي عليها صفيحها

فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا ! والله لا يدخل علي أبدا ، فهل بالباب أحد سوى ذلك ؟ قال : نعم جرير قال : أما إنه [ ص: 84 ] الذي يقول :


طرقتك صائدة القلوب وليس ذا     حين الزيارة فارجعي بسلام

فإن كان لا بد فأذن لجرير . فأذن له فدخل وهو يقول :


إن الذي بعث النبي محمدا     جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه     حتى ارعوى وأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا     والنفس مولعة بحب العاجل

فقال له عمر : ويحك يا جرير ! اتق الله فيما تقول . ثم إن جريرا استأذن عمر في الإنشاد فلم يأذن له ولم ينهه ، فأنشده قصيدة طويلة يمدحه بها ، فقال له : ويحك يا جرير ! لا أرى لك فيها هاهنا حقا . فقال : إني مسكين وابن سبيل . فقال إنا ولينا هذا الأمر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم ، أخذت أم عبد الله مائة ، وابنها مائة ، وقد بقيت مائة . فأمر له بها ، ثم خرج على الشعراء ، فقالوا : ما وراءك يا جرير ؟ فقال : ما يسوءكم ، خرجت من عند أمير المؤمنين ، وهو يعطي الفقراء ، ويمنع الشعراء وإني عنه لراض . ثم أنشأ يقول :


رأيت رقى الشيطان لا تستفزه     وقد كان شيطاني من الجن راقيا

وقال بعضهم فيما حكاه المعافى بن زكريا الجريري : قالت جارية للحجاج بن يوسف في جرير : إنك تدخل هذا علينا . فقال : إنه ما علمت [ إلا ] عفيفا . [ ص: 49 ] فقالت : أما إنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع . فأمر بإخلائها مع جرير في مكان يراهما ولا يشعر جرير بشيء ، من ذلك فقالت له : يا جرير فأطرق رأسه وقال : ها أنا ذا . فقالت : أنشدني من قولك كذا وكذا . لشعر فيه رقة وتحنن . فقال : لست أحفظه ، ولكن أحفظ كذا وكذا . ويعرض عن ذاك ، وينشدها شعرا في مدح الحجاج فقالت : لست أسألك عن هذا ، إنما أريد كذا وكذا . فيعرض عن ذلك ، وينشدها في مدح الحجاج حتى انقضى المجلس ، فقال الحجاج : لله درك ، أبيت إلا كرما وتكرما .

وقال عكرمة : أنشدت أعرابيا بيتا لجرير الخطفى :


أبدل الليل لا تجري كواكبه     أو طال حتى حسبت النجم حيرانا

فقال الأعرابي : إن هذا حسن في معناه ، وأعوذ بالله من مثله ، ولكني أنشدك في ضده من قولي :


وليل لم يقصره رقاد     وقصره لنا وصل الحبيب
نعيم الحب أورق فيه حتى     تناولنا جناه من قريب
بمجلس لذة لم نقف فيه     على شكوى ولا عيب الذنوب
فحلنا أن نقطعه بلفظ     فترجمت العيون عن القلوب

فقلت له : زدني . قال : أما من هذا فحسبك ، ولكن أنشدك غيره . فأنشدني :


وكنت إذا عقدت حبال قوم     صحبتهم وشيمتي الوفاء
[ ص: 50 ] فأحسن حين يحسن محسنوهم     وأجتنب الإساءة إن أساءوا
أشاء سوى مشيئتهم فآتي     مشيئتهم وأترك ما أشاء



قال ابن خلكان : كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور ، وأفخر بيت قاله جرير :


إذا غضبت عليك بنو تميم     حسبت الناس كلهم غضابا

قال : وقد سأله رجل : من أشعر الناس ؟ فأخذ بيده وأدخله على أبيه ، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز ، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته ، فقال جرير للذي سأله : أتبصر هذا ؟ قال : نعم . قال : أتعرفه ؟ قال : لا . قال : هذا أبي ، وإنما يشرب من ضرع العنز ; لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا ، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم .

وقد كان بين جرير ، والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها ، وقد مات في سنة عشر ومائة . قاله خليفة بن خياط وغير واحد ، قال خليفة : مات الفرزدق ، وجرير بعده بأشهر . وقال الصولي : ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة ، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوما .

وقال الكديمي عن الأصمعي عن أبيه قال : رأى رجل جريرا في المنام [ ص: 51 ] بعد موته ، فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي . فقيل : بماذا ؟ قال : بتكبيرة كبرتها بالبادية . قيل له : فما فعل الفرزدق ؟ قال : أيهات ، أهلكه قذف المحصنات . قال الأصمعي : لم يدعه في الحياة ولا في الممات .

وأما الفرزدق :

فاسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة ، أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق ، وجده صعصعة بن ناجية صحابي ، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحيي الموءودة في الجاهلية .

حدث الفرزدق ، عن علي أنه وفد مع أبيه عليه ، فقال : من هذا ؟ قال : ابني وهو شاعر . قال : علمه القرآن فهو خير له من الشعر . وسمع الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق وأبا هريرة ، وأبا سعيد الخدري ، وعرفجة بن أسعد ، وزرارة بن كرب ، والطرماح بن عدي الشاعر .

وروى عنه خالد الحذاء ، ومروان الأصفر ، وحجاج بن حجاج الأحول [ ص: 52 ] وجماعة ، وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحتات ، وعلى الوليد بن عبد الملك وعلى أخيه هشام ولم يصح ذلك .

وقال أشعث بن عبد الملك عن الفرزدق قال : نظر أبو هريرة إلى قدمي فقال : يا فرزدق إني أرى قدميك صغيرتين ، فاطلب لهما موضعا في الجنة . فقلت : إن ذنوبي كثيرة . فقال : لا تأيس ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " .

وقال معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال : دخلت على الفرزدق فتحرك ، فإذا في رجله قيد ، فقلت : ما هذا؟ ! فقال : حلفت أن لا أنزعه حتى أحفظ القرآن .

وقال أبو عمرو بن العلاء : ما رأيت بدويا أقام بالحضر إلا فسد لسانه إلا رؤبة بن العجاج ، والفرزدق ، فإنهما زادا على طول الإقامة جدة وحدة .

وقال راويته أبو شفقل : طلق الفرزدق امرأته النوار ثلاثا ، ثم جاء فأشهد على ذلك الحسن البصري ثم ندم على طلاقها وإشهاده الحسن على [ ص: 53 ] ذلك ، فأنشأ يقول :


ندمت ندامة الكسعي لما     غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها     كآدم حين أخرجه الضرار
فلو أني ملكت يدي وقلبي     لكان علي للقدر الخيار

وقال الأصمعي وغير واحد : لما ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري فشهدها أعيان أهل البصرة والحسن على بغلته والفرزدق على بعيره فسارا ، فقال الحسن ، للفرزدق : ماذا يقول الناس ؟ قال : يقولون : شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس . يعنونك ، و : شر الناس . يعنوني . فقال له : يا أبا فراس لست بخير الناس ، ولست بشر الناس . ثم قال له الحسن : ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، منذ ثمانين سنة . فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها لدفنها ، فأنشأ الفرزدق يقول :


أخاف وراء القبر إن لم يعافني     أشد من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد     عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى     إلى النار مغلول القلادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيم مسربلا     سرابيل قطران لباسا مخرقا
[ ص: 54 ] إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم     يذوبون من حر الصديد تمزقا

قال : فبكى الحسن حتى بل الثرى ، ثم التزم الفرزدق وقال : لقد كنت من أبغض الناس إلي ، وإنك اليوم من أحب الناس إلي .

وقال له بعضهم : ألا تخاف من الله في قذف المحصنات ؟ فقال : والله لله أحب إلي من عيني اللتين أبصر بهما ، فكيف يعذبني ؟ !

وقد قدمنا أنه مات سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوما . وقيل : بأشهر . والله أعلم .

وأما الحسن ، وابن سيرين فقد ذكرنا ترجمة كل منهما مبسوطة في كتابنا " التكميل " . وحسبنا الله ونعم الوكيل .

فأما الحسن بن أبي الحسن

واسمه يسار ، أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت ويقال : مولى جابر بن عبد الله . وقيل غير ذلك ، وأمه خيرة مولاة أم سلمة كانت تخدمها ، فربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع ، فتشاغله أم سلمة بثديها ، فيدر عليه فيرتضع منها ، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له ، وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب قال : اللهم فقهه [ ص: 55 ] في الدين ، وحببه إلى الناس .

وسئل مرة أنس بن مالك عن مسألة فقال : سلوا عنها مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا ، فحفظ ونسينا .

وقال ابن مرة : إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن ، وابن سيرين .

وقال قتادة : ما جالست رجلا فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه . وقال أيضا : ما رأت عيناي أفقه من الحسن .

وقال أيوب : كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن مسألة ; هيبة له .

وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة : إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن فأقرئه مني السلام .

وقال يونس بن عبيد : كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به ، وإن لم يسمع كلامه ولم ير عمله .

[ ص: 56 ] وقال الأعمش : ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها ، وكان أبو جعفر إذا ذكره يقول : ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء .

وقال محمد بن سعد : قالوا : كان الحسن جامعا للعلم والعمل ، عالما رفيعا فقيها ، ثقة مأمونا ، عابدا ناسكا ، كثير العلم والعمل ، فصيحا جميلا وسيما ، وقدم مكة فأجلس على سرير ، واجتمع الناس إليه ، فحدثهم . وكان فيهم مجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وعمرو بن شعيب فقالوا : لم نر مثل هذا قط .

قال أهل التاريخ : مات الحسن عن ثمان وثمانين سنة عام عشر ومائة ، في مستهل رجب منها ، بينه وبين محمد بن سيرين مائة يوم .

وأما ابن سيرين

فهو محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرة الأنصاري مولى أنس بن مالك النضري كان أبو محمد من سبي عين التمر ، أسره خالد بن الوليد في جملة السبي ، فاشتراه أنس ثم كاتبه ، ثم ولد له من الأولاد الأخيار جماعة ؛ محمد هذا ، وأنس بن سيرين ، ومعبد ، ويحيى ، وحفصة ، وكريمة وكلهم تابعيون ثقاة أجلاء ، رحمهم الله .

قال البخاري : ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان .

[ ص: 57 ] وقال هشام بن حسان : هو أصدق من أدركت من البشر .

وقال محمد بن سعد : كان ثقة مأمونا ، عالما رفيعا ، فقيها إماما ، كثير العلم ورعا ، وكان به صمم .

وقال مورق العجلي : ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ، وأورع في فقهه منه .

وقال ابن عون : كان محمد بن سيرين أرجى الناس لهذه الأمة ، وأشد الناس إزراء على نفسه .

قال ابن عون : لم أر في الدنيا مثل ثلاثة محمد بن سيرين بالعراق والقاسم بن محمد بالحجاز ورجاء بن حيوة بالشام وكانوا يأتون بالحديث على حروفه .

وكان الشعبي يقول : عليكم بذاك الأصم . يعني محمد بن سيرين .

وقال ابن شوذب : ما رأيت أحدا أجرأ على الرؤيا منه ، ولا أجبن عن فتيا منه .

وقال عثمان البتي : لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء منه .

[ ص: 58 ] قالوا : ومات في تاسع شوال من هذه السنة بعد الحسن بمائة يوم .

وفيها توفي وهب بن منبه اليماني وهو تابعي جليل ، وله معرفة بكتب الأوائل ، وهو يشبه كعب الأحبار وكان له صلاح وعبادة ، ويروى عنه أقوال حسنة وحكم ومواعظ ، وقد بسطنا ترجمته في كتابنا " التكميل " ولله الحمد .

قال الواقدي : توفي بصنعاء سنة عشر ومائة ، وقال غيره : بعدها بسنة . وقيل : بأكثر . والله أعلم .

[ ص: 59 ] ويزعم بعض الناس أن قبره في بصرى بقرية يقال لها : عصم . ولم أجد لذلك أصلا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية