صفحة جزء
قال الحاكم : حدثنا محمد بن خالد المطوعي ، حدثنا مسبح بن سعيد . [ ص: 439 ]

قال : كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة ، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة .

وقال بكر بن منير : سمعت أبا عبد الله البخاري يقول : أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا .

قلت : صدق رحمه الله ، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس ، وإنصافه فيمن يضعفه ، فإنه أكثر ما يقول : منكر الحديث ، سكتوا عنه ، فيه نظر ، ونحو هذا . وقل أن يقول : فلان [ ص: 440 ] [ ص: 441 ] كذاب ، أو كان يضع الحديث . حتى إنه قال : إذا قلت فلان في حديثه نظر ، فهو متهم واه . وهذا معنى قوله : لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا . وهذا هو والله غاية الورع .

قال محمد بن أبي حاتم الوراق : سمعته -يعني البخاري - يقول : لا يكون لي خصم في الآخرة ، فقلت : إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب " التاريخ " ويقولون : فيه اغتياب الناس ، فقال : إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بئس مولى العشيرة يعني : حديث عائشة .

وسمعته يقول : ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها .

قال : وكان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة ، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم . فقلت : أراك تحمل على نفسك ، ولم توقظني . قال : أنت شاب ، ولا أحب أن أفسد عليك نومك .

وقال غنجار : حدثنا أبو عمرو أحمد بن المقرئ ، سمعت بكر بن منير قال : كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة ، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة . فلما قضى الصلاة ، قال : انظروا أيش آذاني . [ ص: 442 ]

وقال محمد بن أبي حاتم : دعي محمد بن إسماعيل إلى بستان بعض أصحابه ، فلما صلى بالقوم الظهر ، قام يتطوع ، فلما فرغ من صلاته ، رفع ذيل قميصه ، فقال لبعض من معه : انظر هل ترى تحت قميصي شيئا ؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا . وقد تورم من ذلك جسده . فقال له بعض القوم : كيف لم تخرج من الصلاة أول ما أبرك ؟ قال : كنت في سورة ، فأحببت أن أتمها ! ! .

وقال : سمعت عبد الله بن سعيد بن جعفر يقول : سمعت العلماء بالبصرة يقولون : ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح .

وقال أبو جعفر محمد بن يوسف الوراق : حدثنا عبد الله بن حماد الآملي قال : وددت أني شعرة في صدر محمد بن إسماعيل .

وقال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف ، حدثنا محمد بن إسماعيل التقي النقي العالم الذي لم أر مثله .

أعدت هذا للتبويب .

وقال الحاكم : حدثنا محمد بن حامد البزاز ، سمعت الحسن بن محمد بن جابر ، سمعت محمد بن يحيى الذهلي لما ورد البخاري نيسابور يقول : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح ، فاسمعوا منه . [ ص: 443 ]

وقال ابن عدي : سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي ، يقول : جاء محمد إلى أقربائه بخرتنك ، فسمعته يدعو ليلة إذ فرغ من ورده : اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت ، فاقبضني إليك . فما تم الشهر حتى مات .

وقد ذكرنا أنه لما ألف " الصحيح " كان يصلي ركعتين عند كل ترجمة .

وروى الخطيب بإسناده عن الفربري ، قال : رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم ، فقال لي : أين تريد ؟ فقلت : أريد محمد بن إسماعيل البخاري ، فقال : أقرئه مني السلام .

وقال محمد بن أبي حاتم : ركبنا يوما إلى الرمي ، ونحن بفربر ، فخرجنا إلى الدرب الذي يؤدي إلى الفرضة . فجعلنا نرمي ، وأصاب سهم أبي عبد الله وتد القنطرة الذي على نهر ورادة ، فانشق الوتد . فلما رآه أبو عبد الله ، نزل عن دابته ، فأخرج السهم من الوتد ، وترك الرمي . وقال لنا : ارجعوا . ورجعنا معه إلى المنزل ، فقال لي : يا أبا جعفر ، لي إليك حاجة تقضيها ؟ قلت : أمرك طاعة . قال : حاجة مهمة ، وهو يتنفس الصعداء . فقال لمن معنا : اذهبوا معأبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته ، فقلت : أية حاجة هي ؟ قال لي : تضمن قضاءها ؟ قلت : نعم ، على الرأس والعين ، قال : ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة ، فتقول له : إنا قد أخللنا بالوتد ، فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله ، أو تأخذ ثمنه ، [ ص: 444 ] وتجعلنا في حل مما كان منا ، وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر الفربري . فقال لي : أبلغ أبا عبد الله السلام ، وقل له : أنت في حل مما كان منك . وقال : جميع ملكي لك الفداء . وإن قلت : نفسي ، أكون قد كذبت ، غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتد أو في ملكي . فأبلغته رسالته ، فتهلل وجهه ، واستنار ، وأظهر سرورا ، وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحوا من خمسمائة حديث ، وتصدق بثلاثمائة درهم .

قال وسمعته يقول لأبي معشر الضرير : اجعلني في حل يا أبا معشر ، فقال : من أي شيء ؟ قال : رويت يوما حديثا ، فنظرت إليك ، وقد أعجبت به ، وأنت تحرك رأسك ويدك ، فتبسمت من ذلك . قال : أنت في حل ، رحمك الله يا أبا عبد الله .

قال : ورأيته استلقى على قفاه يوما ، ونحن بفربر في تصنيفه كتاب " التفسير " . وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث . فقلت له : إني أراك تقول : إني ما أثبت شيئا ، بغير علم قط منذ عقلت ، فما الفائدة في الاستلقاء ؟ قال : أتعبنا أنفسنا اليوم . وهذا ثغر من الثغور ، خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو ، فأحببت أن أستريح ، وآخذ أهبة ، فإن غافصنا العدو كان بنا حراك .

قال : وكان يركب إلى الرمي كثيرا ، فما أعلمني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين ، فكان يصيب الهدف في كل ذلك ، وكان لا يسبق . [ ص: 445 ]

قال : وسمعته يقول : ما أكلت كراثا قط ، ولا القنابرى ، قلت : ولم ذاك ؟ قال : كرهت أن أوذي من معي من نتنهما . قلت : وكذلك البصل النيء ؟ قال : نعم .

قال : وحدثني محمد بن العباس الفربري ، قال : كنت جالسا مع أبي عبد الله البخاري بفربر في المسجد ، فدفعت من لحيته قذاة مثل الذرة أذكرها ، فأردت أن ألقيها في المسجد ، فقال : ألقها خارجا من المسجد .

قال : وأملى يوما علي حديثا كثيرا ، فخاف ملالي ، فقال : طب نفسا ، فإن أهل الملاهي في ملاهيهم ، وأهل الصناعات في صناعاتهم ، والتجار في تجاراتهم . وأنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه . فقلت : ليس شيء من هذا ، يرحمك الله إلا وأنا أرى الحظ لنفسي فيه .

قال : وسمعته يقول : ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه .

وقال له بعض أصحابه : يقولون : إنك تناولت فلانا . قال : سبحان الله ، ما ذكرت أحدا بسوء إلا أن أقول ساهيا ، وما يخرج اسم فلان من صحيفتي يوم القيامة .

قال : وضيفه بعض أصحابه في بستان له ، وضيفنا معه ، فلما جلسنا أعجب صاحب البستان بستانه ، وذلك أنه كان عمل مجالس فيه ، وأجرى [ ص: 446 ] الماء في أنهاره . فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف ترى ؟ فقال : هذه الحياة الدنيا .

قال : وكان لأبي عبد الله غريم قطع عليه مالا كثيرا ، فبلغه أنه قدم آمل ، ونحن عنده بفربر ، فقلنا له : ينبغي أن تعبر وتأخذه بمالك . فقال : ليس لنا أن نروعه . ثم بلغ غريمه مكانه بفربر ، فخرج إلى خوارزم ، فقلنا : ينبغي أن تقول لأبي سلمة الكشاني عامل آمل ليكتب إلى خوارزم في أخذه ، واستخراج حقك منه ، فقال : إن أخذت منهم كتابا طمعوا مني في كتاب ، ولست أبيع ديني بدنياي . فجهدنا ، فلم يأخذ حتى كلمنا السلطان عن غير أمره . فكتب إلى والي خوارزم . فلما أبلغ أبا عبد الله ذلك ، وجد وجدا شديدا . وقال : لا تكونوا أشفق علي من نفسي . وكتب كتابا ، وأردف تلك الكتب بكتب ، وكتب إلى بعض أصحابه بخوارزم أن لا يتعرض لغريمه إلا بخير . فرجع غريمه إلى آمل ، وقصد إلى ناحية مرو . فاجتمع التجار ، وأخبر السلطان بأن أبا عبد الله خرج في طلب غريم له . فأراد السلطان التشديد على غريمه ، وكره ذلك أبو عبد الله ، وصالح غريمه على أن يعطيه كل سنة عشرة دراهم شيئا يسيرا . وكان المال خمسة وعشرين ألفا . ولم يصل من ذلك المال إلى درهم ، ولا إلى أكثر منه .

قال : وسمعت أبا عبد الله ، يقول : ما توليت شراء شيء ولا بيعه قط . فقلت له : كيف ، وقد أحل الله البيع ؟ قال : لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط ، فخشيت إن توليت أن أستوي بغيري . قلت فمن كان يتولى أمرك في أسفارك ومبايعتك ؟ قال : كنت أكفى ذلك . [ ص: 447 ]

قال : وسمعت محمد بن خداش يقول : سمعت أحمد بن حفص ، يقول : دخلت على أبي الحسن -يعني : إسماعيل - والد أبي عبد الله عند موته ، فقال : لا أعلم من مالي درهما من حرام ، ولا درهما من شبهة . قال أحمد : فتصاغرت إلي نفسي عند ذلك . ثم قال أبو عبد الله : أصدق ما يكون الرجل عند الموت .

قال : وكان أبو عبد الله اكترى منزلا ، فلبث فيه طويلا ، فسمعته يقول : لم أمسح ذكري بالحائط ، ولا بالأرض في ذلك المنزل . فقيل له : لم ؟ قال : لأن المنزل لغيري .

قال : وقال لي أبو عبد الله يوما بفربر : بلغني أن نخاسا قدم بجواري ، فتصير معي ؟ قلت : نعم ، فصرنا إليه ، فأخرج جواري حسانا صباحا . ثم خرج من خلالهن جارية خزرية دميمة عليها شحم ، فنظر إليها ، فمس ذقنها فقال : اشتر هذه لنا منه ، فقلت : هذه دميمة قبيحة لا تصلح ، واللاتي نظرنا إليهن يمكن شراؤهن بثمن هذه . فقال : اشتر هذه ، فإني قد مسست ذقنها ، ولا أحب أن أمس جارية ، ثم لا أشتريها . فاشتراها بغلاء خمسمائة درهم على ما قال أهل المعرفة . ثم لم تزل عنده حتى أخرجها معه إلى نيسابور .

وقال غنجار : أنبأنا أبو عمر وأحمد بن محمد المقرئ : سمعت بكر بن منير -وقد ذكر معناها محمد بن أبي حاتم ، واللفظ لبكر - قال : كان حمل إلى البخاري بضاعة أنفذها إليه ابنه أحمد ، فاجتمع بعض التجار إليه ، فطلبوها بربح خمسة آلاف درهم . فقال : انصرفوا الليلة . فجاءه من الغد تجار آخرون ، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف . فقال : إني [ ص: 448 ] نويت بيعها للذين أتوا البارحة .

وقال غنجار : حدثنا إبراهيم بن حمد الملاحمي ، سمعت محمد بن صابر بن كاتب ، سمعت عمر بن حفص الأشقر قال : كنا مع البخاري بالبصرة نكتب ، ففقدناه أياما ، ثم وجدناه في بيت وهو عريان ، وقد نفد ما عنده ، فجمعنا له الدراهم ، وكسوناه .

وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت أبا عبد الله ، يقول : ما ينبغي للمسلم أن يكون بحالة إذا دعا لم يستجب له . فقالت له امرأة أخيه بحضرتي : فهل تبينت ذلك أيها الشيخ من نفسك ; أو جربت ؟ قال : نعم . دعوت ربي -عز وجل- مرتين ، فاستجاب لي ، فلن أحب أن أدعو بعد ذلك ، فلعله ينقص من حسناتي ، أو يعجل لي في الدنيا . ثم قال : ما حاجة المسلم إلى الكذب والبخل ؟ ! ! .

وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت البخاري يقول : خرجت إلى آدم بن أبي إياس ، فتخلفت عني نفقتي ، حتى جعلت أتناول الحشيش ، ولا أخبر بذلك أحدا . فلما كان اليوم الثالث ، أتاني آت لم أعرفه ، فناولني صرة دنانير ، وقال : أنفق على نفسك .

وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت الحسين بن محمد السمرقندي يقول : كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة : كان قليل الكلام ، وكان لا يطمع فيما عند الناس ، [ ص: 449 ] وكان لا يشتغل بأمور الناس ، كل شغله كان فى العلم .

وقال : سمعت سليم بن مجاهد يقول : ما بقي أحد يعلم الناس الحديث حسبة غير محمد بن إسماعيل . ورأيت سليم بن مجاهد يسأل أبا عبد الله أن يحدثه كل يوم بثلاثة أحاديث ، ويبين له معانيها وتفاسيرها وعللها . فأجابه إلى ذلك قدر مقامه . وكان أقام في تلك الدفعة جمعة .

وسمعت سليما يقول : ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه ، ولا أورع ، ولا أزهد في الدنيا ، من محمد بن إسماعيل .

قال عبد المجيد بن إبراهيم : ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل ، كان يسوي بين القوي والضعيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية