صفحة جزء
صاحب المغرب

السلطان الكبير ، الملقب بأمير المؤمنين المنصور أبو يوسف ، [ ص: 312 ] يعقوب ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي ، القيسي ، الكومي ، المغربي ، المراكشي ، الظاهري ، وأمه أمة رومية اسمها سحر .

عقدوا له بالأمر سنة ثمانين وخمسمائة عند مهلك أبيه ، فكان سنه يومئذ ثنتين وثلاثين سنة .

وكان تام القامة ، أسمر ، صافيا ، جميل الصورة ، أعين ، أفوه ، أقنى ، أكحل ، سمينا ، مستدير اللحية ، جهوري الصوت ، جزل العبارة ، صادق اللهجة ، فارسا ، شجاعا ، قوي الفراسة ، خبيرا بالأمور ، خليقا للإمارة ، ينطوي على دين وخير وتأله ورزانة .

عمل الوزارة لأبيه ، وخبر الخير والشر ، وكشف أحوال الدواوين .

وزر له عمر بن أبي زيد ، ثم أبو بكر بن عبد الله ابن الشيخ عمر إينتي ، ثم ابن عم هذا محمد الذي تزهد ، واختفى ، ثم أبو زيد الهنتاني وزير ولده من بعده . وكتب له السر ابن محشوة ثم ابن عياش الأديب ، [ ص: 313 ] وقضى له ابن مضاء ثم الوهراني ثم أبو القاسم بن بقي .

ولما تملك ، كان حوله منافسون له من عمومته وإخوته ، ثم تحول إلى سلا ، وبها تمت بيعته ، وأرضى آله بالعطاء ، وبنى مدينة تلي مراكش على البحر فما عتم أن خرج عليه علي بن غانية الملثم ، فأخذ بجاية ، وخطب للناصر العباسي ، فكان الخطيب بذلك عبد الحق مصنف " الأحكام " ، ولولا حضور أجله ، لأهلكه المنصور .

ثم تملك ابن غانية قلعة حماد ، فسار المنصور ، واسترد بجاية ، وجهز جيشه ، فالتقاهم ابن غانية فمزقهم ، فسار المنصور بنفسه ، فكسر ابن غانية ، وذهب مثخنا بالجراح ، فمات في خيمة أعرابية وقدم جيشه عليهم أخاه يحيى ، فانحاز بهم إلى الصحراء مع العرب ، وجرت له حروب طويلة ، واسترد المنصور قفصة وقتل في أهلها ، فأسرف ، ثم قتل عميه : سليمان وعمر صبرا ثم ندم ، وتزهد ، وتقشف ، وجالس الصلحاء والمحدثين ، ومال إلى الظاهر ، وأعرض عن المالكية ، وأحرق ما لا يحصى من كتب الفروع .

قال عبد الواحد بن علي : كنت بفاس ، فشهدت الأحمال يؤتى [ ص: 314 ] بها ، فتحرق ، وتهدد على الاشتغال بالفروع ، أمر الحفاظ بجمع كتاب في الصلاة من " الكتب الخمسة " ، و " الموطأ " ، و " مسند ابن أبي شيبة " ، و " مسند البزار " ، و " سنن الدارقطني " ، و " سنن البيهقي " ، كما جمع ابن تومرت في الطهارة . ثم كان يملي ذلك بنفسه على كبار دولته ، وحفظ ذلك خلق ، فكان لمن يحفظه عطاء وخلعة . إلى أن قال : وكان قصده محو مذهب مالك من البلاد ، وحمل الناس على الظاهر ، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده ، فلم يظهراه ، فأخبرني غير واحد أن ابن الجد أخبرهم قال : دخلت على أمير المؤمنين يوسف ، فوجدت بين يديه كتاب ابن يونس ، فقال : أنا أنظر في هذه الآراء التي أحدثت في الدين ، أرأيت المسألة فيها أقوال ، ففي أيها الحق ؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد ؟ فافتتحت أبين له ، فقطع كلامي ، وقال : ليس إلا هذا ، وأشار إلى المصحف ، أو هذا ، وأشار إلى " سنن " أبي داود ، أو هذا ، وأشار إلى السيف .

قال يعقوب : يا معشر الموحدين ، أنتم قبائل ، فمن نابه أمر ، فزع إلى قبيلته ، وهؤلاء -يعني طلبة العلم - لا قبيل لهم إلا أنا ، قال : فعظموا عند الموحدين .

وفي سنة خمس وثمانين غزا الفرنج ، ثم رجع ، فمرض ، وتكلم أخوه أبو يحيى في الملك ، فلما عوفي ، قتله ، وتهدد القرابة .

وفي سنة تسعين انتقضت الهدنة ، فتجهز ، وعرض جيوشه بإشبيلية ، [ ص: 315 ] وأنفق الأموال ، فقصده ألفنش فالتقوا ، وكان نصرا عزيزا ، ما نجا ألفنش إلا في شريذمة ، واستشهد من الكبار جماعة ، واستولى يعقوب على قلاع ، ونازل طليطلة ، ثم رجع ، ثم غزا ووغل بحيث انتهى إلى أرض ما وصلت إليها الملوك ، فطلب ألفنش المهادنة ، فعقدت عشرا ، ثم رد السلطان إلى مراكش بعد سنتين ، وصرح بقصد مصر .

وكان يتولى الصلاة بنفسه أشهرا ، فتعوق يوما ، ثم خرج ، وهم ينتظرونه ، فلامهم ، وقال : قد قدم الصحابة عبد الرحمن بن عوف للعذر ، ثم قرر إماما عنه . وكان يجلس للحكم ، حتى اختصم إليه اثنان في نصف فقضى ، ثم أدبهما ، وقال : أما كان في البلد حكام ؟

وكان يسمع حكم ابن بقي من وراء الستر ، ويدخل إليه أمناء الأسواق ، فيسألهم عن الأمور .

وتصدق في الغزوة الماضية بأربعين ألف دينار .

وكان يجمع الأيتام في العام ، فيأمر للصبي بدينار وثوب ورغيف ورمانة .

وبنى مارستان ما أظن مثله ، غرس فيه من جميع الأشجار ، وزخرفه وأجرى فيه المياه ، ورتب له كل يوم ثلاثين دينارا للأدوية ، وكان يعود المرضى في الجمعة .

[ ص: 316 ] وورد عليه أمراء مصر ، فأقطع واحدا تسعة آلاف دينار .

وكان لا يقول بالعصمة في ابن تومرت .

وسأل فقيها : ما قرأت ؟ قال : تواليف الإمام قال : فزورني وقال : ما كذا يقول الطالب! حكمك أن تقول : قرأت كتاب الله ، وقرأت من السنة ، ثم بعد ذا قل ما شئت .

قال تاج الدين بن حمويه : دخلت مراكش في أيام يعقوب فلقد كانت الدنيا بسيادته مجملة ، يقصد لفضله ولعدله ولبذله وحسن معتقده ، فأعذب موردي ، وأنجح مقصدي ، وكانت مجالسه مزينة بحضور العلماء والفضلاء ، تفتتح بالتلاوة ثم بالحديث ، ثم يدعو هو ، وكان يجيد حفظ القرآن ، ويحفظ الحديث ، ويتكلم في الفقه ، ويناظر ، وينسبونه إلى مذهب الظاهر . وكان فصيحا ، مهيبا ، حسن الصورة ، تام الخلقة ، لا يرى منه اكفهرار ، ولا عن مجالسه إعراض ، بزي الزهاد والعلماء ، وعليه جلالة الملوك ، صنف في العبادات ، وله " فتاوى " ، وبلغني أن السودان قدموا له [ ص: 317 ] فيلا فوصلهم ، ورده ، وقال : لا نريد أن نكون أصحاب الفيل ، ثم طول التاج في عدله وكرمه ، وكان يجمع الزكاة ، ويفرقها بنفسه ، وعمل مكتبا للأيتام ، فيه نحو ألف صبي ، وعشرة معلمون . حكى لي بعض عماله : أنه فرق في عيد نيفا وسبعين ألف شاة .

وقال عبد الواحد : كان مهتما بالبناء ، كل وقت يجدد قصرا أو مدينة ، وأن الذين أسلموا كرها أمرهم بلبس كحلي وأكمام مفرطة الطول ، وكلوتات ضخمة بشعة ، ثم ألبسهم ابنه العمائم الصفر ، حمل يعقوب على ذلك شكه في إسلامهم ، ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة ، ولا في جميع المغرب كنيسة ، وإنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام ، ويصلون ، ويقرئون أولادهم القرآن جارين على ملتنا .

قلت : هؤلاء مسلمون ، والسلام .

وكان ابن رشد الحفيد قد هذب له كتاب " الحيوان " وقال : الزرافة رأيتها عند ملك البربر ، كذا قال غير مهتبل ، فأحنقهم هذا ، ثم سعى فيه من يناوئه عند يعقوب ، فأروه بخطه حاكيا عن الفلاسفة أن الزهرة أحد الآلهة ، فطلبه ، فقال : أهذا خطك ؟ فأنكر ، فقال : لعن الله من كتبه ، وأمر الحاضرين بلعنه ، ثم أقامه مهانا ، وأحرق كتب الفلسفة سوى الطب والهندسة . وقيل : لما رجع إلى مراكش ، أحب النظر في الفلسفة ، وطلب [ ص: 318 ] ابن رشد ليحسن إليه ، فحضر ، ومات ، ثم بعد يسير مات يعقوب .

وقد كتب صلاح الدين إلى يعقوب يستنجد به في حصار عكا ، ونفذ إليه تقدمة ، وخضع له ، فما رضي لكونه ما لقبه بأمير المؤمنين ، ولقد سمح بها ، فامتنع منها كاتبه القاضي الفاضل .

وقيل : إن يعقوب أبطل الخمر في ممالكه ، وتوعد عليها فعدمت ، ثم قال لأبي جعفر الطبيب : ركب لنا ترياقا ، فأعوزه خمر ، فأخبره بذلك ، فقال : تلطف في تحصيله سرا ، فحرص ، فعجز ، فقال الملك : ما كان لي بالترياق حاجة ، لكن أردت اختبار بلادي .

قيل : إن الأدفنش كتب إليه يهدده ، ويعنفه ، ويطلب منه بعض البلاد ، ويقول : وأنت تماطل نفسك ، وتقدم رجلا ، وتؤخر أخرى ، فما أدري الجبن بطأ بك ، أو التكذيب بما وعدك نبيك ؟ فلما قرأ الكتاب ، تنمر ، وغضب ، ومزقه ، وكتب على رقعة منه : ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها الجواب ما ترى لا ما تسمع .



ولا كتب إلا المشرفية عندنا ولا رسل إلا للخميس العرمرم

ثم استنفر سائر الناس ، وحشد ، وجمع ، حتى احتوى ديوان جيشه [ ص: 319 ] على مائة ألف ، ومن المطوعة مثلهم ، وعدى إلى الأندلس ، فتمت الملحمة الكبرى ، ونزل النصر والظفر ، فقيل : غنموا ستين ألف زردية .

قال ابن الأثير : قتل من العدو مائة ألف وستة وأربعون ألفا ، ومن المسلمين عشرون ألفا .

وذكره أبو شامة ، وأثنى عليه ، ثم قال وبعد هذا فاختلفت الأقوال في أمره ، فقيل : إنه ترك ما كان فيه ، وتجرد " وساح ، حتى قدم المشرق متخفيا ، ومات خاملا ، حتى قيل : إنه مات ببعلبك . ومنهم من يقول : رجع إلى مراكش ، فمات بها ، وقيل : مات بسلا ، وعاش بضعا وأربعين سنة .

قلت : إليه تنسب الدنانير اليعقوبية .

قال ابن خلكان : حكى لي جمع كبير بدمشق أن بالبقاع بالقرب من المجدل قرية يقال لها : حمارة ، بها مشهد يعرف بقبر الأمير يعقوب ملك المغرب ، وكل أهل تلك الناحية متفقون على ذلك .

قيل : الأظهر موته بالمغرب ، فقيل : مات في أول جمادى الأولى ، وقيل : في ربيع الآخر ، وقيل : مات في صفر سنة خمس وتسعين .

وقد يقال : لو مات مثل هذا السلطان في مقر عزه ، لم يختلف هكذا في وفاته ، فالله أعلم ، لكن بويع في هذا الحين ولده محمد بن يعقوب المؤمني .

التالي السابق


الخدمات العلمية