[ ص: 289 ] بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى   . 
قرأ الجمهور تؤثرون بمثناة فوقية بصيغة الخطاب ، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات ، وقرأه 
أبو عمرو  وحده بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائدا إلى 
الأشقى الذي يصلى النار الكبرى   . 
وحرف بل معناه الجامع هو الإضراب ، أي : انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد بل فهو إذا عطف المفردات كان الإضراب إبطالا للمعطوف عليه : لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم . وإذا عطف الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين ، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى : 
أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق فهو انصراف في الحكم ، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى : 
ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة فتكون بل بمنزلة قولهم دع هذا فهذا انصراف قولي ، ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق . 
وبل هنا عاطفة جملة عطفا صوريا ، فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها ، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشقون بأن السبب إيثارهم الحياة الدنيا ، وذلك على قراءة 
أبي عمرو  ظاهر ، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى ، فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة . 
ويجوز أن يكون الإضراب إبطالا لما تضمنه قوله : 
قد أفلح من تزكى من التعريض للذين شقوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح . 
والمعنى : أنهم بعداء عن أن يظن بهم التنافس في طلب الفلاح ; لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، فالمعنى : بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة ، وهذا كما يقول الناصح شخصا يظن أنه لا ينتصح : " لقد نصحتك وما أظنك تفعل " .  
[ ص: 290 ] ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين . 
والإيثار : اختيار شيء من بين متعدد . 
والمعنى : تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم . 
ولم يذكر المؤثر عليه ; لأن الحياة الدنيا تدل عليه ، أي : لا تتأملون فيما عدا حياتكم هذه ولا تتأملون في حياة ثانية ، 
فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ . 
واعلم أن للمؤمنين حظا من هذه الموعظة على طول الدهر ، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثارا لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تبعة في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة ، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك ميدان للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى : 
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا   . 
وجملة 
والآخرة خير وأبقى عطف على جملة التوبيخ عطف الخبر على الإنشاء ; لأن هذا الخبر يزيد إنشاء التوبيخ توجيها وتأييدا بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقى . 
وأبقى : اسم تفضيل ، أي : أطول بقاء وفي حديث النهي عن جر الإزار وليكن إلى الكعبين ، فإنه أتقى وأبقى .